الغرب المتصدِّع نحو نظام عالمي جديد
كتب العميد الركن خالد حماده في "اللواء":
يتغذى الصراع الدائر في أوكرانيا على خلفيّة خلل مزمن في العلاقات بين شرق أوروبا وغربها، أو بين معسكريْها على طرفيّ الستار الحديدي. ويتبيّن مع كلّ يوم حجم القطع الذي تحدثه الحرب الدائرة في مسار العلاقات داخل القارة ومع كلّ الهياكل والمنظّمات التي أنتجها الغرب منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. مستويات التحوّل التي تتكشف فصولاً تتجاوز بكثير تلك التي أحدثتها ــ بعد انهيار الإتّحاد السوفياتي ــ حرب الخليج بفصولها الثلاث وبعدها الحرب على الإرهاب التي أطلقتها دوائر الإستخبارات الأميركية، كبديل عن عدو لا بدّ منه، بعد أن صاغت نماذجها وعناوينها وأبطالها ومساراتها، والتي لا زالت تتوالى فصولاً من الخليج العربي مروراً بشبه الجزيرة العربية وشمال أفريقيا وشواطىء المتوسط مستهدفة استقرار الدول العربية وإقتصاداتها الصاعدة.
ما قبل أوكرانيا لن يكون كما بعدها. إهتزت بقوة الأركان والمفاهيم التي استندت إليها القارة الأوروبية في صياغة قيّم جمهورياتها واتّحادها وتحالفاتها الدفاعية الأمنية المحلية وتلك العابرة للأطلسي، وبرزت هشاشة الإتّفاقات في حماية الأمن وترنحت إلى حدّ بعيد كلّ المنظّمات التي أُلقيت عليها مسألة حماية السلم والأمن الدوليين. بدا البنيان النظري الغربي كريشة في مهب ريح عاتية مع عبور أول طائرة روسية المجال الجوي الأوكراني، وقبل أن تعبر الدبابات الحدود البرية، وتحررت بالتوازي وبسرعة البناءات الرديفة الإقليمية التي تمحورت حولها إيران وتركيا وإسرائيل لتحقيق مصالحها بما يتّسق مع حدود اللعبة الدولية ومصالح أقطابها. الإختلالات المتسارعة توحي أنّ الترتيبات والإتّفاقات التي ستعقد بعد أن تضع الحرب أوزارها لن تكون قادرة على إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل الرابع والعشرين من شباط 2022.
ينقسم الغرب المتصدّع أمام ما يحصل إلى فريق يحكمه الهلع من وصول الحرب الى حدود دوله تتقدّمه بولندا وهنغاريا، وفريق يدرك تبعات الإنقسام في الداخل الأوروبي على الإقتصاد والأمن وتجسدّه مواقف كلّ من ألمانيا وفرنسا بالرغم من عدم الإستجابة الروسية. يُنبىء الإنقسام المذكور بانبعاث أوروبا جديدة خارج المدار الأميركي أو على الأقل خارج دائرة المتلقي الدائم للإملاءات الأميركية. يحتاج الإتّجاه الأوروبي الجديد الى تحويل الإختلاف في النظرة الى مسببات الحرب الدائرة وطريقة الخروج منها الى مجموعة من المفاهيم في الأمن والسياسة والإقتصاد، كما يحتاج الى من يلاقيه من الدائرة الروسية في منتصف الطريق لتحويل المفاهيم الى شراكات واضحة وقابلة للحياة. وقد يكون التعبير الأقوى عن الإستدارة الأوروبية والفهم الجديد للعلاقات الأوروبية ما جاء بالأمس على لسان وزير الخارجية البولندي زبيغنيو راو رئيس منظّمة الأمن والتعاون في أوروبا والتي تضمّ روسيا: « إنّ السلم والأمن الدوليين ليسا من المسلّمات كالحرية والديمقراطية ، بل يجب تفهّم هواجس وقلق الدول ومعالجتها، وإنّ مستقبل المنظّمة يتوقف على مدى قدرتها على إحياء التعاون بين كلّ الدول الأعضاء».
وبالتوازي تبدو الدول الإقليمية أكثر قابلية على التحرر من الإلزامات الأميركية، وكأنها تتحيّن الفرصة للخروج عن الطاعة تمهيداً لتحويل العلاقات السابقة الى شراكات حقيقية أو لاستدراج تحالفات أكثر صدقيةً وأكثر توازناً. يمكن القول أنّ هناك نمطَيْن من المواقف، النمط الهادىء الذي تمثّله مواقف كلّ من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتّحدة بعدم الاستجابة للرغبات الأميركية والأوروبية برفع مستويات الإنتاج من النفط. يمكن اعتبار لمواقف الخليجية بمثابة الإستدارة غير المتوقّعة من الغرب الذي يختبر للمرة الأولى تبعات مواقفه المنحازة من الصراع في اليمن واعتداءات الحوثيين على المنشآت الحيوية في جنوب المملكة وفي دولة الإمارات. بدوره الموقف التركي حيال الأزمة يمكن تصنيفه ضمن هذا النمط أيضاً، فتركيا أعربت وبكلّ صراحة عن عدم قناعتها بالسير بالعقوبات الدولية على موسكو لا سيما في مجال الطاقة نظراً للحاجة الأوروبية الملحة ــ وهذا ما يشكّل نقطة تلاقي جديدة مع الغرب ـــ كما تمسكّت بالأمس بمفهومها الخاص في تطبيق اتّفاق مونترو المتعلّق بعبور السفن الحربية من مضائقها.
يمثّل الموقف الإيراني في هذا الاطار النموذج الأكثر توتراً نظراً للتعقيدات الروسية الأميركية التي أملتها الحرب في أوكرانيا، وللتقاطعات الإيرانية الملتبسة مع كلّ من القوّتين في أكثر من ملف، هذا ما يمكن قراءته من الهجوم على محيط القنصلية الأميركية في إربيل بــ 13 صاروخاً بالستياً. إنّ مسارعة الحرس الثوري في إعلان مسؤوليته عن العملية الصاروخية بصرف النظر عن صحة الرواية الإيرانية باستهداف مراكز إسرائيلية، هي إعلان إيراني صريح أنّ إيران لا يمكن أن تتحمل تبعات التعثّر في استئناف مباحثات فيينا وعدم إخراج الإتّفاق النووي من مرحلة المراوحة الذي فرضته كلّ من روسيا والولايات المتّحدة. كذلك فإنّ الدقة في توجيه الصواريخ التي أكّدها تجنّب إلحاق إصابات مباشرة في القنصلية أو في التجمعات السكنية القريبة هو رسالة بأنّ قدرات طهران جاهزة للتوظيف باتّجاه القواعد الأميركية في المنطقة وربما المفاوضات البترولية في شرق المتوسط أو باتّجاهات أخرى قد تفرضها المرحلة المقبلة. هذا في الوقت الذي تستكين إسرائيل الى علاقتها بالولايات المتّحدة وتطمئن لقواعد الإشتباك التي صاغتها مع روسيا.
ما بين غرب متصدّع يبحث عن قواعد جديدة للأمن والإستقرار وشرق لم تتبلوّر معالمه ترتسم ملامح نظام عالمي جديد.