بوتين.. كولونيل يقيم خلف جدارين
كتب مصطفى فحص في "الحرة":
بين الجدار الأحمر الذي يحيط بقلعة الكرملين وجدار برلين الذي أحاط بنصف القارة الأوروبية مساحة وزمانا، يرفض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مغادرتهما. هو الساكن خلف الأول في عزلة اختيارية تركت أثرها على طبيعته وعلى شخصيته حسب ما يروّج أعداؤه، ومسكون بالثاني الذي يتعامل معه كخطيئة لا يمكن أن يسامح نفسه عليها أو يتجاوزها. وخارج الجدارين تكونت انطباعات متناقضة، عن كولونيل مغمور أمسك بالسلطة في بلاد اعتادت أن تحكمها أُسر امبراطورية أو حزبية، استمدت شرعيتها من طروحات روحية تارة وأيديولوجية تارة أخرى، انطباعات أغلبها خارجية أخطأت في تقديراتها لكولونيل يخفي هويته، ترقى وظيفيا في زمن الفوضى فأدهشها كيف تمكن من أن يصبح رئيسا قابضا على الدولة، وصدمها عندما تصرف كقيصر يطمح للقبض على الجغرافيا.
خلف الجدار الأول لم يعد ممكنا التمييز بين الرئيس والقيصر، صمت المستشارون وصفق المؤيدون كأنه استنساخ من بلاد البعث، حيث يختزل مصير البلاد والعباد بما يقرره السيد الرئيس القائد المهيب، فلا مكان للرأي الآخر أو المعارض ولا حاجة لصناديق الاقتراع أو تداول السلطة، ولا ثقة بطبقة سياسية أو حزبية ولو كانت مدجنة، فقد اختزل الكولونيل، الرئيس، القيصر، تداولاته برفاق دربه المخبرين، الذين ساعدوه على عزل نفسه خلف الجدار، وساهموا في رسم صورة يرغب فيها عن نفسه، تعكس طموحاته وتلبي رغباتهم، ونجحوا في إخضاع الداخل وترهيب الخارج، وفي لحظة صعود اتسع فيها ظله خارج الجدار الأول، وأغراه ما استعاده من قوة، فتحرك لاستعادة المساحة الجيوسياسية الفاصلة بين الجدارين.
سنة 1989 أرسل الكولونيل في (كي جي بي) فلاديمير بوتين برقية عاجلة إلى قيادته عن تمرد في برلين سيكون أسوأ هزيمة جيوسياسية لبلاده في القرن الماضي. وفي 2022 أرسل أوامره إلى قواته المسلحة بتصحيح هذا الخطأ عبر البوابة الأوكرانية، بعدما أعطى فعلته مبررات تاريخية مفتعلة تتنكر لتاريخ حفظه أباطرة روسيا السوفياتية والقيصرية. فقد كشفت الحرب على أوكرانيا مأزق الكولونيل الرئيس القيصر، بأنه مثقل بطموحات أو أوهام أثقلت كاهله وكاهل من سبقه، وكانت سببا في دفع روسيا أثمانا باهظة بالأرواح والثروات والجغرافيا، حيث تحولت الأخيرة إلى لعنة تسببت بمعاناة دائمة امتدت لعدة قرون، أغرت كل الراغبين في الصعود وكانت أيضا سببا في سقوطهم.
لم يلتفت فلاديمير بوتين إلى حجم الخسائر الجانبية لمقامرته مهما تكن قاسية، فالتضحية من أجل الجغرافيا ضرورية عندما يقترب العدو من الحدود، أو تعصف رياح التغيير الملونة باستقرار جواره المطيع، وتقترب من جدار قلعته الحمراء. فالرجل الذي أرسل طائراته إلى دمشق لن يتردد لحظة في إرسال دباباته إلى كييف، لكن ما غاب عن باله أنه عندما حرّك آلته العسكرية أيقظ ذاكرة الشعوب التي سكنت داخل الجدار الثاني، وأثار مخاوف سكان الجهة الأخرى من الجدار. ففي اللحظة التي أراد فيها فلاديمير بوتين إعادة عقارب الساعة إلى الوراء انتفضت شعوب أوروبا الشرقية وأعلنت عن استعدادها للتضحية حتى لا تعود إلى مرحلة ما بعد 1945، فيما احتشدت دول أوروبا الغربية حتى لا تكرر مأساة ماقبل 1945.
منذ سنوات يرى فلاديمير بوتين العالم يتغير، لكنه يرفض أن يتغير، يرفض الاعتراف بأن الزمن يسير باتجاه واحد، ويصرّ على إعادته إلى الوراء، منذ احتلال القرم يسيطر عليه وهم توسعي، تصرف كأن المسافة ما بين الجدارين باتت قريبة وأنه بخطوة صغيرة يستعيد امتلاكها، وتحرك مدفوعا برغبة اخضاع كل من تمرد أو تجرأ على عظمة بلاده، عظمة لا يمكن استعادتها فقط عن طريق القوة، فما لم يدركه الضباط الذين جاءوا إلى السلطة، وأفرغوا الحياة السياسية والحزبية والفكرية الثقافية الروسية من مضمونها، أنه ليس بالقوة وحدها تستعيد روسيا عظمتها، وأن الكولونيل المقيم خلف جدارين لا يمكن أن يصبح قيصر.