من سيرث إيران وأذرعها؟
قبل قرن من الزمن، وتحديداً سنة 1923، فاز مصطفى كمال أتاتورك برئاسة حزب الشعب الجمهوري ثم أنجز حرب التحرير التي استمرت 5 سنوات استعاد خلالها العلمانيون لتركيا ما كانت الدول الكولونيالية قد تقاسمته من أراضي الدولة العثمانية الإسلامية التي هُزمت في الحرب العالمية الأولى.
التقاسم الكولونيالي تمّ وفق معاهدة سايكس بيكو السرّية التي وقّعت في العام 1916 بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة روسيا وإيطاليا لاقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا، ولتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد تحقيق هزيمة السلطنة العثمانية التي تحالفوا ضدها وضدّ حليفتها ألمانيا في الحرب العالمية الأولى.
حالياً، تعمل القوى العظمى على قطع أذرع كولونيالية الولي الفقيه الفارسي الملتفّة على الدول العربية وبعض الدول الأفريقية ما يطرح سلسلة تساؤلات ليس أقلها: من سيستعيد البر الإيراني Mainland Iran من نظام الولي الفقيه، وكيف سيتمّ استيعاب أذرع الأخطبوط الفارسي بعد استئصالها من الأراضي العربية بعدما نُشرت بسطوة السلاح والمال خارح الحدود المعترف بها للدولة الإيرانية؟
الخطورة العظمى لكولونيالية البر الإيراني تقع على اليمن و 6 دول خليجية منتشرة على الحوض الغربي للخليج، وترجع جذور معظم شرائحها الشيعية إلى الحوض الإيراني الشرقي للخليج، وتعززت هذه العصبية بإعلان تأسيس “مجلس التعاون لدول الخليج العربية” في 25 أيار العام 1981 ما زعتبر تراجعاً من قبل قمة أبو ظبي التي ألّفت المجلس عن تسمية الخليج العربي مكتفية “بدول الخليج العربية” فيما تمسّكت إيران “بالخليج الفارسي”، بعد 10 سنوات من إحتلالها جزر الإمارات العربية المتحدة الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسي في 31 تشرين الثاني العام 1971.
الدول الست التي يتكون منها مجلس التعاون لدول الخليج العربية هي الإمارات العربية المتحدة، دولة الكويت، المملكة العربية السعودية، سلطنة عمان، مملكة البحرين ودولة قطر.
إنفجر الخلاف على تسمية الخليج في العام 2009 خلال الدورة الثانية لألعاب التضامن الإسلامي في طهران التي سكّت إسم الخليج الفارسي على ميداليات الدورة فرفض اللاعبون العرب المشاركة.
وما زالت تسمية الخليج العربي حية حصراً على جميع وثائق وخرائط جامعة الدول العربية وأعضائها كما على وثائق المؤسسات الخاصة في الدول الأعضاء في الجامعة، وما زالت إيران تحتل جزر الإمارات الثلاث ومنطقة عربستان ذات الأغلبية السكانية العربية السنية التي تطلق عليها طهران إسم الأهواز.
لكن، على الرغم من تفاصيل الخلاف العربي-الفارسي تبقى التساؤلات المطروحة بجدية تدور حول ثلاثة محاور:
-1-من سيستعيد إيران من شمولية نظام الولي الفقيه، وهو شأن داخلي إيراني تحدد مساراته تحالفات القوى العظمى، وعلاقات القوى الداخلية مع المحاور الدولية.
-2- ماذا سيكون مصير أذرع إيران المنشورة في الدول العربية والأفريقية بسطوتي السلاح والمال؟
-3- ماذا سيكون مصير الدول العربية التي تتخندق فيها أذرع نظام الولي الفقيه عسكرياً وسياسياً وإدارياً ما يجعلها مسرحاً لصراع ستكون هي ضحيته حتماً إذا لم يكن لها موقف تحالفي مع أحد محاور القوى العظمى.
السؤال الأول يحمل الإجابة عنه معه، أي يتحدد مصير من يرث دكتاتورية الولي الفقيه بتحالف قوة أو قوى داخلية مع قوة أو مع محور دولي تتحدد بموجبه الهوية السياسية للدولة الإيرانية، وما إذا كانت ستُضم إلى النادي النووي أم لا.
في جميع الأحوال، تطرح الأسئلة الثلاثة من واقع أن صيغة سايكس بيكو قد انتهت صلاحيتها، ويجري البحث عن صيغة جديدة تحكم علاقات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وغرب آسيا مع بقية العالم لفترة لا يراد لها أن يكون عمرها أقصر من عمر ما سبقها.
لذلك لا يتوقع أن تبصر النور “عناوين” الصيغة الجديدة قبل جلاء نتيجة الإنتخابات الرئاسية الأميركية في الأسبوع الأول من تشرين الثاني المقبل، خصوصاً إذا فاز الجمهوري دونالد ترامب على الديمقراطي جو بايدن، ولا يتوقع أن تتسرب “مسودة” الصيغة الجديدة إلا بعد إلقاء الرئيس الأميركي خطابه السياسي الأول الذي يحدد أولويات إدارته ومسارها.
أما الدول التي تسيطر عليها أذرع الولي الفقيه فلا تستطيع أن تدعي الحياد في الصراع الدائر، فهذا خيار الغباء لأنّ نتيجته المحسومة سلفاً هي خسارة مطلقة lose-lose Situation لأنه يفتح الباب على مصراعيه للقوى العظمى للتحالف مع أخطبوط النظام الإيراني مباشرة وضخّ الحياة في أذرعه المتهالكة حالياً.
لذلك لم يعد مهماً التساؤل إن كانت إسرائيل ستردّ على هجوم إيران الهزلي الذي أطلقت خلاله 185 مسيّرة كاميكازي، و36 صاروخ كروز و110 صواريخ بالستية لم يصل منها إلا 7 صواريخ إلى إسرائيل أسفرت عن إصابة فتاة عمرها 7 سنوات.
إسرائيل سترفع نسبة الإغتيالات التي تطاول أذرع إيران وقيادات الحرس الثوري في لبنان وسوريا والعراق كما سترفع من عمليات التدمير الممنهج لقرى وبلدات جنوبي نهر الليطاني إضافة إلى التدمير الممنهج لشركات الأموال ومقاهي الميسر الإلكتروني المتهمة بتمويل أذرع إيران وقوى التطرف الإسلاموي.
ويقول دبلوماسي غربي إنّ المشهد سيكون “كما القصف السجادي الذي اعتمد في الحرب العالمية الثانية، كما سيكون أشبه بعمليات الإستطلاع بالنيران التي تنتهي بتدمير أهداف في أبنية مدنية مكتظة بالسكان غير المسلحين في المدن الكبرى”.
كل هذا المشهد المخيف سيحدث فيما لا تتمكن شريحة الدول الفاقدة لسيادة القرار من أن تعمل على إصلاح نظامها قبل الإطاحة بالمحتل، لأنّ أي محاولة، مثلاً، لملء الشغور الرئاسي عبر التوافق على شخص يتولى المنصب الأول في الدولة ستكون واقعياً قبولاً بالشراكة مع أذرع الأخطبوط الذي يسيطر على شريحة الإنسان المدمن على الخضوع للطغيان وفق نظرية متلازمة ستوكهولم Stockholm Syndrome كنوع من الارتباط العاطفي غير الإدراكي بين شخصين أحدهما يضايق ويعتدي ويهدد ويضرب ويخيف الآخر ما يجبر الطرف الثاني على إدمان العبودية وحبه لمعذبه هرباً من معاناة ألم عذابه.
إدمان العبودية هو حال معظم شعوب الدول الفاقدة لسيادة القرار والخاضعة لتسلط أذرع الطغيان عموماً والتي تعاني من متلازمة الجاموسة Water Buffalo Syndrome أي أنها تتصرف كالجاموسة بعد فكّها عن نير إدارة الناعورة، فلا تذهب لتشرب أو تأكل على الرغم من تعبها وجوعها وعطشها، بل تنتظر سيدها ليقدم لها العلف والماء.
مثل هذا التصرف التبعي غير المعني بالحقوق والواجبات يتحقق بعد تعرض بلد أو بيئة لقمع طويل فتنشأ أجيال لا تحتاج إلى الحرية وتتلاءم مع الاستبداد تعرف بأجيال “المواطن المستقر” وفق تعريف المفكر الفرنسي إيتيان دولابواسييه في كتابه ”العبودية الطوعية”.
أجيال المواطن المستقر هذا تنحصر اهتماماتها بثلاثة أمور: الدين، والإكتفاء الغذائي، ورياضة كرة القدم.
الدين بالنسبة للمواطن المستقر هو مجرد أداء طقوس ولا علاقة له بالمضمون الإيماني، يرتعب ويتوتر ويغضب إذا فاتته صلاة أو حلقة تعبّد، لكن لا يمانع في أن يسرق ويرتكب الموبقات… ويصلي. أما الإكتفاء الغذائي فهو عنوان لإكفاء معيشة العائلة. كرة القدم هي المتنفس الذي يعبّر خلاله المستقر من دون خوف أو وجل أو حرص عن تأييد وتشجيع فريق أو عن معارضة وتقريع فريق آخر فيفرغ التوتر الذي يُلزمه إستقراره على إختزانه في نفسه المريضة، ثم يعود إلى طوعيته المرضية عبداً لسيده الذي يؤمن له فساده ما يحتاجه “إستقراره”.
من يتابع عن كثب مسارات الجماعات اللبنانية، لا سيما المُدُنية منها، يلاحظ تشابهها مع مدمني العبوديات ومبرري المخالفات، ويدرك أنه لا إمكانية لتحقيق أي إصلاح في البلد ما لم يبدأ بمعاقبة “اللبناني” الذي يغطّي “المخالف اللبناني”، ويليه معاقبة غير اللبناني، لأنه لولا وجود “المستقر الفاسد” اللبناني لما تمكن فاسد آخر، سواء أكان مستقراً أم غير مستقر، من تجاوز القانون.
وفي هذا الإطار تبدو الحملات التي تشنّ حصرياً ضد السوريين مجرد عنصريات متخلّفة تهين كرامة اللبنانيين أساساً لأنهم لا يقبلون أن يكونوا نسخة حديثة عن نظام الفصل العنصري البائد الذي كان سائداً في جنوب أفريقيا قبل أن يحرّرها نيلسون مانديلا من ذلك التخلف الإنساني.
لا شك في أنّ بعض غير اللبنانيين يخالفون القانون، أكانوا سوريين أم فلسطينيين أم من أي جنسية أخرى، لكن هذا لا يعني أنّ اللبناني لا يتعمّد مخالفة القانون، كما ذلك الذي قتل زوجته وقطّعها، وكقريب رجل الدين العكاري الذي قتله ودفنه، أو كتلك السيدة العنصرية التي طالبت إدارة مدرسة ابنها بطرد ابن الناطور السوداني لأن بشرته لونها أفريقي… وغيرها كثر.
ترى لو كان ذلك الطفل السوداني إبن سفير إفريقي لا إبن ناطور بناية هل كانت ستتجرأ تلك السيدة على المطالبة بفصله من المدرسة؟
على اللبناني أن يحسن طرح قضيته وعلى السلطات أن تلاحق الطابور المعروف بتشويه مواقف اللبنانيين، سواء لجرهم إلى تقاتل داخلي أو لتشويه صورتهم أمام العالم.
محمد سلام - هنا لبنان