حزب الله وفرصة الخروج من عنق الزجاجة
لم يتسع فضاء الإعلام اللبناني لتغطية وقائع مؤتمر ميونيخ للأمن الذي جمع على امتداد ثلاثة أيام أكثر من خمسين رئيس دولة ومجموعة كبيرة من صناع القرارات، من رؤساء حكومات ووزراء وأمنيين، لمناقشة التّحديات الأمنية الأكثر حراجة في العالم. لقد تصدرت الحرب التي دخلت شهرها الخامس في غزة وتداعياتها على الإستقرار الإقليمي والدولي جدول أعمال المؤتمر، كما ركزت مداخلات القادة المشاركين على إنهاء الصراع وما اصطلح على تسميته باليوم التالي للحرب وحل الدولتين. لكن ما يبدو أن غزة التي تستحوذ على كل الإهتمام الدبلوماسي الدولي والتي يهدد استمرار الحرب أو وقف القتال فيها بتغيير قواعد الإستقرار في المنطقة، لا تحظى بإهتمام المسؤولين في لبنان وهي تختلف عن غزة التي تشتعل من أجلها جبهة الجنوب ويتحمل لبنان بشكل عام والجنوب بشكل خاص تبعات إلحاقه بالحرب الدائرة فيها.
لقد اختار لبنان الرسمي حكومة وأحزاباً وبرلماناً الإختباء خلف عنوان عدم مناقشة ما يجري في الجنوب قبل وقف إطلاق النار في غزة، دون إمتلاك الجرأة لاتّخاذ القرار بالمشاركة فيها بالحد الأدنى أو جرأة التعبير عن موقف سياسي واضح تتبناه الحكومة أمام مواطنيها اللبنانيين في حال استمرار المعارك. وإذا كان المسؤولون في لبنان قد أحجموا حتى الآن عن إتخاذ أي موقف حيال الحرب في غزة نظراً لضبابية المعطيات وآثروا الصمت أو التماهي مع مواقف حزب الله، فحري بهم امتلاك القدرة على الإصغاء للمواقف الدولية المتغيرة لإنقاذ لبنان. لقد أسقط التصعيد الإسرائيلي الذي بلغ ساحل الشوف ومدينة النبطية ما سميّ بقواعد الإشتباك التي لم تكن سوى فقاعات إعلامية للإجهاز على أي دور محتمل للدولة والجيش، والتي استفاد منها حزب الله والعدو الإسرائيلي تحت عنوان «الردع والردع المضاد» ولم تعكس أي توازن حقيقي في القدرات العسكرية.
لقد عرضت نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس خلال مشاركتها في مؤتمر ميونيخ للأمن جملة من المواقف المتصلة بمستقبل الحرب في غزة والتسوية المرتقبة والتي تستحق التوقف عندها والتفاعل معها نظراً لانعكاساتها الخطيرة على الوضع المتفجر في الجنوب اللبناني. فبما يعكس واقعية أميركية غير منتظرة قالت هاريس أن هناك قضية واحدة تريد التطرق إليها الى جانب أوكرانيا وهي القضية الإسرائيلية الفلسطينية.
مقاربة نائبة الرئيس تناولت «إنهاء الصراع في أقرب وقت ممكن، وضمان نهايته بطريقة تضمن أمن إسرائيل، وإطلاق سراح الرهائن، وحل الأزمة الإنسانية، وعدم سيطرة حماس على غزة، والمحافظة على حق الفلسطينيين في الأمن والكرامة والحرية وتقرير المصير». هذا وقد وصفت هاريس المبادئ التي ينبغي تطبيقها في اليوم التالي بعدم إعادة احتلال غزة، وعدم تغيير أراضيها الجغرافية، وما يجب القيام به فيما يتعلق بالحكم في غزة؛ ومن ثم إعادة بناء غزة». وقد اختتمت هاريس كلمتها بالتأكيد أنه «لا يمكن أن يكون هناك سلام وأمن لتلك المنطقة – لشعب إسرائيل أو الفلسطينيين وشعب غزة – دون حل الدولتين. ولا يمكننا أن نتخلى عن ذلك».
تستدعي مقاربة هاريس المخارج الأميركية لإنهاء الصراع في غزة تساؤلات عديدة مشوبة بالقلق حيال وتيرة المناوشات المتصاعدة في الجنوب التي لم تتناولها هاريس في سياق التهدئة الأميركية المفترضة في غزة، مما يؤكد رغبة واشنطن في فصل ما يجري في الجنوب اللبناني عن وقف إطلاق النار في غزة، وبما يرفع من مخاطر نشوب حرب على لبنان بتغطية أميركية. والتساؤلات عينها تصبح أكثر حراجة بعد تأكيد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن خلال المؤتمر «أنّ إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تعمل على إبرام صفقة ضخمة من شأنها أن تشهد تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، حيث تسعى المملكة العربية السعودية ودول عربية أخرى إلى إقامة دولة فلسطينية في إطار هذه الصفقة».
تكتسب هذه المواقف أهميتها في ظلّ التردي الواضح في العلاقات الإيرانية الأميركية بالرغم من التنازلات الكبيرة التي قدمتها طهران لجهة تأكيدها الإنفصال التام عن مجريات الحرب في غزة وعن أنشطة الفصائل الإسلامية في سوريا والعراق، بما في ذلك الهجوم الأخير على القاعدة الأميركية في شرق الأردن، وبالرغم من التعليمات الواضحة التي أصدرها قائد فيلق القدس إسماعيل قآني للفصائل بعدم الرد على أي هجوم أميركي. هذا التراجع الإيراني الذي يترجمه انكفاء واضح وعجز عن رد الفعل بالرغم مما تتعرض له الفصائل الإيرانية في سوريا من هجمات ينعكس بشكل واضح على خيارات حزب الله ويقيّد مناورته الميدانية بشكل كبير، وهذا ما يؤكده عدم التكافؤ بين الأهداف الإسرائيلية التي يهاجمها حزب الله والهجمات الإسرائيلية المتكررة في العمق اللبناني.
فهل تتوقف حكومة لبنان وبرلمانه وأحزابه عن دفن الرأس في الرمال؟ وهل تمتلك الشجاعة الوطنية للخروج من عباءة حزب الله أمام ما ينتظر اللبنانيين من مخاطر؟ وهل يدرك حزب الله أن استعادة الدولة لدورها هو الخيار الوحيد لإخراجه من عنق الزجاجة؟
العميد الركن خالد حماده - اللواء