لا مفر من تحقيق دولي يكشف حقائق انفجار المرفأ
كتب الدكتور اليان سركيس:
ثلاث سنوات تمر على ذكرى الرابع من آب الأليمة عندما وقعت جريمة العصر ودمرت أجزاء كبيرة من العاصمة بيروت، إنها جريمة إنفجار مرفأ بيروت عام 2020 التي إهتز لها الضمير العالميـ لكن لم يهتز لها ضمير المسؤولين في لبنان،
أودت هذه الجريمة بحياة مئتين وخمسة وثلاثون ضحية (235 ضحية)، وتسببت بجرح وإعاقة ما لا يقل عن السبعة آلاف مواطن لبناني من مختاف الطوائف وإنهيار كامل للبنية التحتية لأكثر من نصف العاصمة وتصدع ما لا يقل عن سبعين ألف وحدة سكنية في محيط مرفأ بيروت، عدا عن الخسائر المادية وحالات الهجرة الكثيفة وخاصة الشباب الصاعد التي لم يعد يؤمن بمستقبل زاهر في لبنان.
هذه الجريمة تم تشبيهها بإنفجار قنبلة هيروشيما في اليابان التي كانت أبشع صورة من مظاهر الحرب العالمية الثانية، ولكن سرعان ما تم إعادة الحياة للشعب الياباني بنهوضه الإقتصادي والإجتماعي، فهناك كان يوجد دولة مركزية قوية تسهر على أمن وكرامة شعبها، ويوجد شعب يريد الحياة ويطالب بحقوقه ويتحدى الصعاب بإرادة فولاذية مما سهل الأمور حتى يتحقق والازدهار على كل الصعد وتنهض البلاد من كبوتها.
لكن في لبنان للأسف، لم تكن معالجة الأمور كذلك ولو في حدها الأدنى فلم تتحمل السلطات الدستورية على إختلافها من تشريعية وتنفيذية وقضائية وحتى امنية او عسكرية، ومن أعلى الهرم الى أدناه مسؤولياتها، وعلاج ما خالفه الإنفجار اعتمد على مبادرات لمؤسسات شخصية وعلى أصحاب النخوة من المجتمع المدني ومئات المتطوعين من الشباب من كل المناطق اللبنانية والدفاع المدني بإمكانيات مادية ومالية متواضعة جداً.
مع الإشارة الى أن بعض مساعدات المجتمع الدولي ومنظماته الإنسانية، كانت ترفض ولم تزل أن تمر هذه المساعدات عبر الدولة اللبنانية، نظراً لإنعدام الثقة الدولية كليا بأداء السلطات اللبنانية، والمعرفة التامة بالفساد المستشري بكل مفاصل الدولة .
لقد وضعت الحكومة اللبنانية ملف القضية أمام المجلس العدلي منذ سنتين ونصف تقريباً نظراً لطابعها الإجرامي والجزائي، وعين بداية القاضي فادي صوان محققاً عدلياً لهذا الملف للتحقيق وإعداد القرار الظني لطرحه على المجلس العدلي للبت به، لكن جرى الإعتراض السياسي على أدائه من قبل فريق الممانعة حيث تمت تنحيته قسرًا، ومن ثم تم تكليف القاضي طارق بيطار بهذه المهمة، حيث جرى الإعتراض مجدداً على أدائه وتوجيه الإتهامات له بعدم الموضوعيةوتسييس التحقيقات والإستنسابية، لأن رياح التحقيق لم تجر وفقا لأهواء الفريق الممانع والانكى بالقوة ومن داخل قصر العدل نجح مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا في تعطيل التحقيق.
بعد ثلاث سنوات على ثاني أكبر تفجير غير ذري في العالم لم يعرف الشعب اللبناني وأهالي الضحايا الحقيقة .المسؤولية المباشرة بشكل عام هي على عاتق الدولة اللبنانية وهي الوحيدة مسؤولة عن أمن مواطنيها وأحوالهم وأملاكهم وأرواحهم على مساحة الوطن، ولا يمكن لتلك السلطات التملص من مسؤولياتها وتعطيل التحقيق بل السير بها حتى كشف الحقيقة ولو كانت مروعة، والحرص على إستمرارية التحقيقات يتطلب تأمين المناخ المواتي حرصاً على الإستقرار والنظام العام، وهنا نسأل أين وزارة العدل ووزارة الدفاع الوطني ووزارة الداخلية والأشغال العامة والمالية وغيرها؟
أين رؤساء الحكومات المتعاقبة منذ العام 2014 حتى لحظة الإنفجار في 4 آب للعام 2020؟ أين القضاء المختص وبالحراسة القضائية على المستودع رقم 12، وبالموظفين ذات الصلة المباشرة كالمدراء العامين للجمارك والنقل البحري وإدارة المرفأ، والموظفين المسؤولين عن تخزين البضائع في المستودعات الخاصة، ومدى حرصهم على إبلاغ رؤسائهم عن خطورة المواد المتفجرة المخزونة في المستودعات، وتأمين شروط السلامة العامة.
بالعودة الى القوانين المرعية الإجراء، فإن الإهمال الوظيفي لبعض المسؤولين عن الإدارة العامة يرقى الى المستوى الجرمي والقصدي، وإن عملية التخزين قد خالفت جميع الأصول والنصوص القانونية لجهة الإحتفاظ بهذه المواد لمدة تزيد عن الست سنوات بصورة متواصلة، دون الخلاص منها بالطرق القانونية، وإزالة مخاطرها الكارثية، أن البضائع المتروكة كحالة نيترات الأمونيوم المتفجرة يحرم تخزينها في المستودعات لمدة زمنية طويلة وفقاً لقانون الجمارك وقانون العقوبات اللبناني، لذلك لا مفر من محاسبة جميع هؤلاء عن إرتباكاتهم الجرمية.
إن منظومة الفساد عينت سبعة من نواب المجلس التشريعي كأعضاء في المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، على أن يتم فيما بعد إستكمال تشكيله بثمانية قضاة ليكتمل عدده، وفقاً (للمادة 80) من الدستو، كمحكمة إستثنائية وجزائية لا تقبل أحكامها أي طريق من طرق المراجعة. هذه المحكمة التي نص عليها الدستور منذ العام 1990، ولم تتمكن من محاكمة أحد من الرؤساء أو الوزراء بالرغم من الكم الهائل من جرائم الرشوة والفساد وسوء الإدارة ومخالفة الدستور أو الإثراء غير المشروع ، ولكن كل ذلك بسبب آلية الإحالة على هذا المجلس المعقدة أو شبه المستحيلة بتعبير آخر المجرم لا يحاكم نفسه وكأن هذا المجلس قد أوجدته هذه المنظومة ليحميها من أية محاكمة أو محاسبة.
كما يجب العمل على إلغاء (المادة 80 من الدستور، وجميع المحاكم الإستثنائية التي لم يعد من مبرر لوجودها في لبنان، وحصر المحاكمة العسكرية بالعسكريين دون سواهم، ورفع الحصانات المختلفة عن المرتكبين أثناء التحقيق معهم ومحاكمتهم أمام المحاكم العدلية ذات الإختصاص، وإعطاء القضاء والإستقلال بعد إقرار قانون استقلاليته من أجل إعادة الثقة بلبنان ومؤسساته الدستورية وتعافيه الإقتصادي والإجتماعي.
أما اليوم، في هذه الذكرى الأليمة التي كانت سبباً في تدمير أجزاء واسعة من العاصمة بيروت وقتل الأبرياء وتدمير الإقتصاد وتوسيع دائرة الهجرة الى الخارج، فإننا نطالب بتحقيق دولي مؤلف من قضاة أجانب مستقلين وان يتعاملوا مع قضاة محليين نزيهي الكف في لبنان ليحرصوا على إستمرارية التحقيقات المتعلقة بهذه القضية الإنسانية وكشف الحقائق المدوية مهما كانت أسبابها وخلفياتها، فلا ثقة بالقضاء المحلي اللبناني لأنه غير مستقل وتابع لهذه المنظومة المجربة.
كل التقدير والإحترام لمن يدعمون ويحتضنون هذه القضية الوطنية والإنسانية والمجد والخلود لشهداء المرفأ، وكل الدعم لأهاليهم في قضيتهم العادلة.