العفو يولد حصراً من رحم الإدانة
قبل استضافة المملكة العربية السعودية للرئيس السوري بشار الأسد على أرضها في جدة للمشاركة في القمة العربية الدورية رقم 32 كان السؤال المتداول في الشارع اللبناني يتناول الإنتخابات الرئاسية، متى ستجري، من سيكون الرئيس العتيد، ومن سيكون رئيس حكومة العهد الأولى.
بعد قمة جدة، التي عقدت يوم الجمعة الماضي، ولغاية كتابة هذه السطور تبدّل السؤال وحلّ مكانه تساؤل واحد وإن بصيغ متعددة جميعها تدور حول مضمون واحد: “بشار راجع يحكمنا”؟ أو “راجعة الـ س. س.” أي رمز تحالف السعودية – سوريا التي تشارك بموجبها الرئيس الشهيد رفيق الحريري مع النظام السوري وفق معادلة الاقتصاد له (للحريري) والأمن لمخابرات الأسد التي شاركته قسراً في الاثنتين معاً إلى أن قتلته سيارة مفخخة فُجّرت إلكترونياً في أحد شوارع بيروت في 14 شباط 2005 يوم كان لبنان كله تحت سيطرة رئيس جهاز الأمن والإستطلاع (المخابرات) في القوات السورية بلبنان العميد رستم غزالة.
غزالة، الذي كان ضمن ضباط استجوبتهم لجنة دولية تحقق في اغتيال رفيق الحريري، انسحب من لبنان مع بقية القوات السورية في 26 نيسان العام 2005، أي بعد 71 يوماً من إغتيال الحريري و21 شخصاً من المارة وحرس رئيس الحكومة بتفجير سيارة مفخخة بألف كيلوغرام من المتفجرات…
أحدهم استوقفني ومن دون سلام فاجأني بسؤال: “رستم راجع؟” أخبرته أنّ رستم غزالة مات في المستشفى بسوريا في 24 نيسان العام 2015 بعدما رُفّع إلى رتبة لواء ثم أصيب في عراك مع أنصار مخابراتي آخر في سوريا فأدخل إلى المستشفى ومات بعد شهر.
لكن الأخ الذي لا يعرف أن رستم غزالة مات ما زال يذكر أن “جلالة الملك عبد الله، الله يرحمو ويجعل الجنّة مسكنو، جاب بشار على لبنان واجتمعوا مع رئيس الجمهورية وقتها ميشال سليمان. يعني السعوديين بيمونوا على بشار، بتعتقد ممكن يكونوا كلفوه يعيّن لنا مخابراتي جديد؟”
حاولت إشرح للمصاب بفوبيا رستم غزالة أن سوريا اليوم هي غير سوريا في حقبة الـ س.س. وإنو سوريا حالياً يسيطر عليها جيش أميركي، وجيش روسي، وجيش إيراني، وجيش تركي، إضافة إلى جيش سوري موالٍ لتركيا، وفرقة عسكرية سورية متحالفة مع مهربي المخدرات الذين يتولى سلاح الجو الأردني محاربتهم إضافة إلى عشرات التنظيمات المصنفة إرهابية وفق المقاييس العالمية والعربية من أمثال داعش والقاعدة ومتفرعات حزب العمال الكردستاني والميليشيات المدعومة إيرانياً، إضافة إلى الإسرائيلي الذي يتفقد أحوال سوريا من الجو أسبوعياً…
وعاجلته بسؤال قبل أن يسألني: “بتعتقد وضع سوريا الحالي بيسمح لنظامها يرسل قوة من جيشه إلى لبنان؟”
فعلاً لم يسألني، لكنه تمتم “الله يستر، الله يلطف،” وغادرني… حتى من دون وداع كما استوقفني وسألني من دون سلام.
غريب هذا الضياع اللبناني الذي لم يلاحظ الحرص السعودي على استيلاد عالم عربي فتي يعمل على تصفير المشاكل ليأخذ مكانه في النظام العالمي الجديد القائم على تأمين استقرار يؤدي إلى إزدهار.
ومع ذلك يبقى من حق اللبناني أن لا ينسى “المآثر” التي ارتكبها نظام الأسد في لبنان، ومن حق اللبناني أن ينفخ على اللبن لأن الحليب الأسدي كواه، ومن حق اللبناني أن توقظه كوابيسه وتخيفه أكاذيب محور الممانعة التي تزعم أن السعودية تدعم مرشحاً رئاسياً متحالفاً مع حزب إيران ونظام الأسد مع أن السعودية طلع الشعر على لسانها (باللبناني) من كثرة ما أعلنت أنها لا تضع فيتو ولا تدعم أي مرشح للرئاسة لأن هذه مهمة اللبنانيين التي لا تتدخل فيها.
ولكن، ألا يستحق اللبناني، الذي تكسّرت نصال غدر الفاسدين المستعربين والمتأسلمين زعماً على ظهره وصدره لكثرتها، بتطمين يشرح له أبعاد سياسة الخطوة مقابل الخطوة التي تعتمدها المملكة في التعامل مع من تعطيه فرصة… للتوبة؟
حتماً لن تقول المملكة ما هي شروط التوبة التي وضعت على الأسد، ولكن اللبناني يعلم أن مبدأ العفو لا يطبق إلّا على من أدين بذنب أو من اعترف بذنبه من دون إخضاعه لمحاكمة عملاً بقاعدة “العفو يولد من رحم الإدانة”.
على أن يكون الإقرار بالذنب علنياً، على نسق ما فعلته ألمانيا عندما اعترفت بعد الحرب العالمية الثانية للحلفاء وللعالم بما اقترفه رايخها النازي من مجازر وأخذت على عاتقها تسديد التعويضات لقاء مسامحتها.
هل هناك ضمانات بأن قاتل المفكر الشيعي “اليميني” مصطفى جحا مؤلف كتاب “لبنان في ظلال البعث” وكتاب “محنة العقل في الإسلام” سيعترف بذنبه، علماً بأن جحا قتل في 15 كانون الثاني سنة 1992 بنيران مسدس من عيار 7 ملم مزود بكاتم للصوت في منطقة السبتية الموالية لحزب السلاح الفارسي شرقي بيروت.
هل هناك ضمانات بالاعتراف بالذنب من قبل قاتل المفكر الشيعي حسين مروة الذي تخرج من “جامعة النجف” للدراسات الإسلامية وفق المذهب الشيعي في العام 1938 وانتسب لاحقاً إلى “الحزب الشيوعي اللبناني” وأصدر كتابه الشهير “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية” قبل أن تقتله يد الغدر في منزله، ويقال أنه قتل بالرصاص في سريره في منطقة الرملة البيضاء ببيروت في 17 شباط 1987 وفارق الحياة فوراً عن 77 عاماً.
هل هناك ضمانات للاعتراف بالذنب من قبل قاتل “الشيعي الليبرالي” لقمان سليم بأربع رصاصات في رأسه في 4 شباط 2021 وهو نجل المحامي الألمعي-النائب الراحل محسن سليم الذي كان عضواً في حزب الكتلة الوطنية بزعامة المسيحي الماروني ريمون إدة.
هل هناك ضمانات للاعتراف بالذنب من قبل قتلة رئيس بلدية صيدا معروف سعد، المعلم كمال جنبلاط، المفتي الشيخ حسن خالد، نائب رئيس المجلس الشرعي الأعلى الشيخ صبحي الصالح، النائب ناظم القادري، النائب أنطوان غانم، الرئيس رينيه معوض، الرئيس بشير الجميل، الرئيس رشيد كرامي، الوزير السابق محمد شطح، النائب-الصحافي جبران تويني، نقيب الصحافة رياض طه، ناشر مجلة الحوادث سليم اللوزي الرئيس الشهيد رفيق الحريري ومن كان معه؟… على سبيل المثال لا الحصر…
هل ستصل العدالة إلى من تسبب بتفجير مرفأ بيروت، أم أنّ رذيلة الإفلات من العقاب ستبقى ترفرف على رؤوس منظومة تحالف سلاح الغدر والمال القذر التي ارتكبت كل الموبقات؟
الأرجح أن من تبقى على قيد الحياة من الضالعين بقتل من سلف ذكرهم على تنوعهم الطائفي والعقائدي والوظيفي وتعدد جنسياتهم لن يعترفوا بذنوبهم، ومع ذلك، بل على الرغم من ذلك، لن يحظوا في حياتهم بعفو بل سيطالهم القصاص في الحياة الدنيا عملاً بقوله تعالي:
“وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” صدق الله العظيم (البقرة 179).
وتبقى القاعدة التي يرددها الوجدان اللبناني لا عفو عن قاتل كائناً من كان حتى لو اعترف بذنبه وطلب المغفرة.
محمد سلام - هنا لبنان