الذكرى 33 للطائف ... دعوة لقراءة عاقلة
لم تكن الدعوة التي وجهها سفير المملكة العربية السعودية في لبنان وليد البخاري لمناسبة مرور 33 عاماً على إبرام وثيقة الوفاق الوطني التي وقّعت في الطائف حاجةً أو حجةً سعودية لتأكيد اهتمام المملكة بلبنان، كما أنّ المواقف التي أدلى بها السفير صاحب الدعوى سواء في تأكيد التمسّك بعروبة لبنان أو لجهة عدم وجود أي نيّة لدى الفرنسيين لتعديل اتّفاق الطائف لا يمكن تصنيفها تحت عنوان المواقف المعنوية التي تُطلق لطمأنة اللبنانيين أو للتعبير عن تمنيات المملكة حيال التموّضع الإقليمي للبنان وحيال دوره الجيوسياسي. إنتماء لبنان إلى محيطه العربي ليس خياراً للمفاضلة من بين خيارات مطروحة، والمسألة ليست مسألة إنتماء لجماعة أو لقومية بالمعنى السوسيولوجي للتعبير المستخدم، ولا هي قضية هوية بالبعد القانوني للكلمة بحيث يمكن تبديلها بسهولة واكتساب هوية أخرى لمجرد تخيّل الرفاهية أو تلقي وعد باكتساب ظروف حياة أفضل في عالم آخر.
وثيقة الوفاق الوطني الموقّعة في الطائف هي صياغة أجمع عليها اللبنانيون لممارسة الشأن العام وهي ترجمة سياسية ومؤسساتية لكيفية بناء الدولة وتحديد خياراتها البعيدة المدى وفاقاً لتوازنات داخلية وثوابت إقليمية ودولية. بهذا المعنى تصبح العناوين الواردة في مقدّمة الدستور ــ والمستمدة من فشل تجربة الجمهورية الأولى ــ لجهة نهائية الكيان وعروبتة والتزام المواثيق الدولية واحترام الحريات العامة والمساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين واعتماد النظام الإقتصادي الحرّ والإنماء المتوازن لجميع المناطق ثقافياً وإجتماعياً وإقتصادياً وإلغاء الطائفية السياسية، أركان في أساس وحدة الدولة اللبنانية الجديدة بل مواصفات جودتها الملزمة ومقوّمات استمرارها واستقرار نظامها.
وفي هذا الإطار لا يمكن تبسيط قراءة وفهم أي محاولة لإدخال أي تعديل على الدستور على أنه إرادة داخلية لبنانية أو ممارسة فرضها ميزان قوى داخلي ينبغي البناء عليه، بل إنقلاب على دور لبنان ووظيفته الإقليمية واختلال في توازناته الداخلية ومقدّمة لإنفجار داخلي تنعكس تداعياته على المنطقة. هكذا تقرأ المملكة محاولات التسويق للمثالثة واستحداث بعض المواقع في السلطة والأجهزة الأمنية في ظلّ النظام الطائفي القائم وفي ظلّ هيْمنة حزب الله وإيران على القرار السياسي وتشكيل السلطة. وبناءً عليه تصبح قراءة ما قاله السفير البخاري حيال عدم وجود نيّة فرنسية لتعديل الدستور من قَبيل الحفاظ على الإستقرار الإقليمي والأمن القومي العربي، وهي ثوابت يمليها ثقل المملكة وحضورها الدولي على العلاقات السعودية الفرنسية وليس من قَبيل التوافقات الدبلوماسية، بالرغم من جنوح السياسة الخارجية الفرنسية الواضح نحو الإستثمار في الوضع اللبناني القائم.
آخر المساخر الديمقراطية التي يدرسها التيار الوطني الحر هي انتخاب رئيس الجمهورية على مرحلتين، بحيث يُنتج المسيحيون المرشحون الأقوياء في الطائفة في المرحلة الأولى ــ ولا ندري إذا كان هذا الإنتخاب سيقتصر على الموارنة، ثم يُعرض المرشحون الفائزون على اللبنانيين في المرحلة الثانية لانتخاب رئيس عتيد من بينهم. أمام هذا الخير يُحار المرء هل يدرك هؤلاء ما معنى المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وهل قرأوا فعلاً شرعة حقوق الإنسان أو لا زالوا يقبعون في ظلمات القرون الوسطى؟ هل يمكن لبشري عاقل أن يصدر هذه الأفكار وهل يعتقد هؤلاء أنّ الأوطان والدساتير والقوانين قد وضعت لخدمتهم، وهل أصبح الجنون متاحاً لهذه الدرجة أم أنّ هذا جزءٌ من التنوّع اللبناني الذي يجب حمايته؟ لهؤلاء نقتبس مما ورد الكتاب المقدس «لا، لا، لسنا راضين، ولن نرضى أبداً حتى يجري الحق كالمياه، والبِّرُ كنهر دائم».
إنّ الحضور النوعي والمتنوّع الذي شارك في منتدى الطائف 33 يعود الى اليقين بالدور المتزايد للمملكة في الإقليم وفي المواقف الدولية لا سيما بالتوازي مع الصراع الدولي الدائر في أوكرانيا، وغياب حزب الله عن المنتدى هو أكثر من دليل على إستياء طهران من هذا الدور في ظلّ الإنحسار الذي تعانيه الجمهورية الإسلامية على المستوى الدولي والتّصدعات التي يعانيها نظام الملالي جراء تطور الإحتجاجات الداخلية. لكنّ الإعتقاد أنّ ثبات المملكة في موقفها كافٍ لإخراج لبنان من أزمته السياسية دون إنضاج دينامية لبنانية تنطلق من التمسّك بالدستور، وتؤسّس لشرعة وطنية تقطع الطريق على كلّ التأويلات والإجتهادات التي يقدّمها منظّرو التجارب الفاشلة تحت شعار الميثاقية واحترام موقع الرئاسة، هو إعتقاد خاطئ.
صحيح أنّ وثيقة الوفاق الوطني لم تعطَ الفرصة المناسبة لتطبيقها ولكن الصحيح أيضاً أنّ التجارب المذهبية والطائفية وكلّ ما أنتج حول الميثاقية من نظريات خارج إطار المواطنة لم يكن سوى دليلاً على شهية مستشرية للإنقضاض على الوطن، حيث شكّل اتّفاق الطائف في كلّ مرة ملاذاً للمجموعات المستهدفة. وبين حنوح الإستقواء بالخارج الذي مارسته طوائف لبنانية متنوّعة منذ الإستقلال حتى اليوم وبين الإحتماء بالدستور الذي يريده اللبنانيون يأتي منتدى الطائف 33 ليقول بالفم الملآن لكلّ الطامحين «إقرأوا الطائف بعقولكم».
العميد الركن خالد حماده - اللواء