خيار بكركي
كتب العميد الركن خالد حماده في "اللواء":
تقدّمت مسألة المطران موسى الحاج النائب البطريركي العام للموارنة على القدس والأراضي الفلسطينية، أثناء عودته من القدس، سواها من الأحداث التي تحاكي الإنقسام الوطني المتعدّد الأوجه والمتفاقم على وقع الخلاف في الملفات كافة. فبصرف النظر عن البعديْن القانوني والقضائي لمسألة التوقيف ومصادرة الأموال والأدوية، فإن إقناع اللبنانيين وليس بكركي وحدها بفصل ما جرى عن الصدام السياسي العميق بين البطريركية المارونية من جهة وفريق حزب الله ورئيس الجمهورية وحلفائهما من جهة دونه أكثر من استحالة. إنّ إخفاق القضاء في استكمال التحقيق في ملفات تفجير المرفأ واشتباكات عين الرمانة والإعتداءات على الجيش في منطقة بعلبك الهرمل والتهريب وسواها، وتقديم الحصانات السياسية والحزبية على تطبيق القانون ومعاقبة المرتكبين تجعل من محاولات الإقناع بأنّ ما جرى في الناقورة مع المطران الحاج هو التزام درجت عليه الأجهزة الأمنية والقضاء تطبيقاً للقانون.
أقدمت بكركي ولا تزال منذ انتفاضة 17 تشرين على اتّخاذ مواقف عديدة مؤيّدة لتحركّات المواطنين المطالبين بالحياة الكريمة في كنف دولة ذات سيادة على كامل أراضيها تؤمّن لهم المساواة وتطبّق القانون. وقد شكّلت العظات الأسبوعية خارطة طريق للعمل الوطني بمعناه الشامل مما كرّس بكركي مرجعاً لكلّ اللبنانيين وموقعاً متقدّماً تحصّن خلفه المواطنون في غياب أي إطار سياسي جامع.
مواقف بكركي المتقدّمة من مسألتيّ سلاح حزب الله وبسط سلطة الدولة ومن تحديد مواصفات رئيس الجمهورية المقبل ـــ«محترماً وشجاعاً ومتجرِّداً، رجل دولة حياديّاً في نزاهته وملتزماً في وطنيّته، ويكون فوق الإصطفافات والمحاور والأحزاب، ولا يشكّل تحديّاّ لأحد، وقادراً على ممارسة دور المرجعيّة الوطنيّة والدستوريّة والأخلاقيّة»ـــ هي ما وضع بكركي في الموقع الأول للمواجهة مع قوى الأمر الواقع. هذه المواجهة ستزداد حدّتها مع تقدّم العدّ العكسي لانتهاء ولاية الرئيس ميشال عون وانفتاح المشهد على إحتمالات عديدة يختلط فيها الإقليمي بالمحلي، فيما تستمر بكركي كمرجعية لا يمكن المجاهرة بتجاوز رمزيّتها وموقعها الوطني.
لا شك أنّ مسألة المطران الحاج هي إعلان لمواجهة مفتوحة مع بكركي في ظلّ غياب أي محاولة لاحتواء الموقف وتداعياته الوطنية من خلال ما تتيحه القوانين وانكفاء مدعي عام التمييز أو وزير العدل. وما مبادرة النائب جبران باسيل حليف حزب الله الى تأييد موقف البطريرك الراعي وإدانة التعرّض للمطران موسى الحاج ودعوته لتصحيح الخطأ سوى مقدّمة لعروض شعبوية تهدف لمساومة بكركي وثنيْها عن خياراتها وإعادة إدخالها في دوامة الخلافات المارونية / المارونية بين المرشحين لرئاسة الجمهورية.
إنّ حدود وتداعيات الخيارات التي أطلقتها بكركي سواء في اختيار رئيس الجمهورية أو في مسألة سلاح حزب الله لا تقف عند الشأن الداخلي اللبناني، بل هي مسائل كبرى تتشابك مع ميزان قوى متغيّر وشبكة مصالح إقليمية ودولية يعاد ترتيبها. وهذا ما يرفع درجة الحراجة في المواجهة. ولا يغيبنّ عن إدراك بكركي أنّ تزامن الإنتخابات الرئاسية مع تسويّات مقترحة في المنطقة ، وتوقيع اتّفاق ترسيم الحدود البحرية ومعها خارطة النفوذ الإيراني في شرق المتوسط يجعلان من خيارات بكركي ومواقفها نقطة تحوّل ودعوة لتغيير المسار الإنحداري الذي تلتزمه السلطة في لبنان منذ توقيع اتّفاق الدوحة في أيار 2008. وبهذا يسمو دور بكركي إلى ما هو أكبر وأهم من المفاضلة بين موارنة مرشحين لرئاسة الجمهورية ليرتقي لمستوى تقييم المرشحين الموارنة وأهليتهم لقيادة دولة السيادة والمواطنة.
تدرك بكركي التي ثابرت منذ تأسيس لبنان على حماية فكرة تعايش الطوائف وحماية الدور الريادي للمسيحيين أنّ فكرة لبنان 1920 لم تعد قادرة على الصمود أمام المتغيّرات السياسية والإقتصادية والديموغرافية التي عرفتها المنطقة وأمام التوازنات الدولية الجديدة. وهي تدرك دون شك استحالة مهمتها في ظلّ تراجع قدرة المسيحيين كطائفة في التأثير في مستقبل لبنان.
إنّ الخيار المتاح أمام بكركي لإنقاذ الدور المسيحي من وهْم الإستمرار عبر التماهي مع مشاريع مذهبية لا تشبههم، هو في إطلاق وقيادة مسار دولة الحداثة المدنية الحقيقية للإنتقال بلبنان من دولة الطوائف الى دولة المواطنة. في رحاب الحداثة فقط قد يستعيد لبنان دوره كنموذج وربما يستعيد المسيحيون ريادتهم.