أميركا والنظام العالمي الجديد معايير النجاح والفشل
كتب العميد الركن خالد حماده في "اللواء":
تجاوزت تداعيات وأشكال الأزمة الناشئة في أوكرانيا بُعدها الميداني. خطوط القتال المتغيّرة تقدّماً أو انكفاءً حول المدن، والإندفاعة الغربية لتقديم الدعم المفتوح لأوكرانيا وكلّ الإجراءات التي اتّخذت هي دون التعبيرعن الصراع المتعدّد الأوجه الذي يُدفع العالم برمّته لولوج مساراته والرضوخ لها. يبدو أنّ فشل الحسابات والتوقعات لم يقتصر على الجانب الروسي. لا شك أنّ روسيا أرادت من خلال حملتها العسكرية، وفي زمن قياسي، إلزام الغرب بالجلوس الى طاولة المفاوضات وتحويل طموحاتها الى مواثيق واتّفاقات تُبرمها وتضمنها الولايات المتّحدة. وبالمقابل رأت الولايات المتّحدة أنّ الإندفاعة الروسية هي الفرصة السانحة لتطويق موسكو وإخضاعها ، في زمن قياسي كذلك، ووقف المسار التصاعدي للرئيس بوتين من خلال إجراءات وعقوبات سيندفع الإتّحاد الأوروبي لتطبيقها استجابةً للرغبة الأميركية ودرءًا لخطر متعاظم يمثّله صعود روسيا. بتعبير آخر أرادت روسيا فرض الإعتراف بشراكتها في النظام الدولي القائم، فيما أرادت الولايات المتّحدة إعادتها إلى أمسية انهيار الإتّحاد السوفياتي والتأكيد أنّ النظام الدولي القائم لم يفقد صلاحيته وأنّ محاولة تعديل ما رُسم في حينه دونه عقبات لا يقوى بوتين على تجاوزها.
تدفع أوكرانيا ومعها أوروبا ثمن المبالغتان الأميركية والروسية في تقدير فائض القوة لدى كلّ منهما. لم تجدّ روسيا من يفاوضها لوقف عمليتها فلم يبقَ أمامها سوى خيار الإستمرار بالحرب، وبالمقابل لم تتّسم الإستجابة الأوروبية والعربية والآسيوية بالشمولية التي أرادتها الولايات المتّحدة لإفشال بوتين فكانت إطالة أمدْ الحرب هي خيار الوقت الضائع. وليست الإتهامات حول التحضير لحرب نووية أو كيماوية محتملة أو حول ارتكاب جرائم حرب وانتهاك القانون الدولي، وعدم قبول الإحتكام الى مجلس الأمن والأمم المتّحدة لإجراء تحقيق مسؤول سوى إمعان في مزيد من المغامرة والرهان المجنون على الوقت. آثرت روسيا تعديل خطتها المتعثّرة لتتلاءم مع إطالة الحرب بأقلّ خسائر ممكنة فكان الإنسحاب من محيط كييف واللجوء الى تدمير ممنهج للبنيّة التحتيّة الأوكرانية ومقوّماتها الإستراتيجية.
يقول كيسنجر في كتابه «النظام العالمي»: «لا يوجد نظام عالمي «حقيقي». «ما نعرفه في عصرنا قد تمّ ابتكاره في أوروبا الغربية منذ ما يقرب من أربعة قرون ، في مؤتمر ويستفاليا، دون مشاركة أو حتى إدراك معظم القارات أو الحضارات الأخرى.» وإنّ ما يتآكل منذ عدة سنوات هو التزام قادة الولايات المتّحدة بالدفاع عن هذا النظام الدولي الموسّع ودعمه ودفعه – وهو ما أسماه كيسنجر «نظام تعاوني يتوسّع بلا هوادة من الدول التي تحترم القواعد والمعايير المشتركة، وتحتضن الأنظمة الإقتصادية الليبرالية، وتتخلى عن الغزو الإقليمي، إحترام السيادة الوطنية واعتماد أنظمة حكم تشاركية وديمقراطية «.لقد نمت التناقضات منذ انتهاء الحرب الباردة وكان أبرزها أسلوب «القيادة من الخلف» الذي اتّبعه الرئيس باراك أوباما ونموذج «أمريكا أولاً الذي إبتكره الرئيس السابق دونالد ترامب».
ما هي إمكانيات نجاح الرهان على الوقت لتثبيت ريادة الولايات المتّحدة على النظام العالمي القائم وما هي صلاحية شبكة التحالفات الأميركية التي اختبرت الحرب في أوكرانيا ركاكتها وعدم صلاحيتها للإستمرار؟
لقد أظهرت الحرب الأوكرانية أنّ لا مصلحة لدول الشرق الأوسط في التخلي عن الصين الشريك التجاري الرئيسي للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة، أو في الإنفصال عن روسيا، التي رسّخت نفسها كقوة لا يستهان بها عندما أنقذت الرئيس السوري بشار الأسد، بالرغم من الخطاب الأميركي المرتفع، من خلال تدخّلها العسكري في حربه. علاوةً على ذلك ، فَقَدَ شركاء الولايات المتّحدة في الشرق الأوسط الثقة في إلتزام وكفاءة الولايات المتّحدة في قيادة العالم بعد الإنسحاب الفاشل من أفغانستان خلال العام المنصرم، كما أنهم يتعرّضون للطعن من إدارة بايدن التي تسعى إلى إعادة الإتّفاق النووي دون مراعاة مخاطر العدوان الإقليمي لطهران بشكل مسؤول. هذا بالإضافة فإنّ فوز بوتين - حتى بتكلفة باهظة للروس والأوكرانيين على حدّ سواء - من شأنه أن يسرّع من التراجع الغربي كممثّل عالمي فعال.
بالتوازي مع ذلك فإنّ الدبلوماسية الروسية آثرت الإنتقال الى موقع التّحدي عبر زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف نيودلهي لشكر الهند على رفضها الإنضمام إلى العقوبات ضد روسيا ، وهو نهج تشاركه البرازيل والمكسيك وإسرائيل والإمارات العربية المتّحدة. لقد قال لافروف مجاهرةً، «سنكون مستعدين لتزويد الهند بأي سلع تريد الهند شرائها». ولا يمكن التقليل من أدوار الوسطاء الإقليميين للبحث عن حلول دبلوماسية للأزمة الاوكرانية بما يشكّل تّحدياً للرغبة الأميركية المضمرة بالإستمرار بالحرب.
إنّ الواقعية في مقاربة التحوّلات الدولية المواكبة للأزمة الأوكرانية تقتضي الإعتراف بأنّ السؤال الحقيقي ليس ما سيكون عليه النظام العالمي الجديد، بل هل بإمكان الولايات المتّحدة وحلفائها من خلال أوكرانيا وقف تآكل مكاسب القرن الماضي كخطوة أولى نحو إنشاء نظام عالمي حقيقي يقتضي من الولايات المتّحدة وأوروبا تعديل مسار الإنحدار الغربي والديمقراطي أولاً.