أوروبا أمام الستار الحديدي مجدداً
كتب العميد الركن خالد حماده في "اللواء":
لا يستطيع الرئيس فولوديمير زيلنسكي قيادة الصراع الدائر بين الغرب وروسيا على أرض أوكرانيا كما إنه لا يستطيع التفاوض حول أي من العناوين التي يرفعها الرئيس فلاديمير بوتين لوقف الحرب، من الإعتراف بشبه جزيرة القرم كجزء لا يتجزأ من الأراضي الروسية أو الموافقة على استقلال جمهوريتيّ دونيتسك ولوغانسك، أو في مسألة الإنضمام لحلف الناتو وحياد أوكرانيا. حُمّل الرجل أوزار حرب بالوكالة يخوضها عن أوروبا التي تعيش تصحّراً قاتلاً على مستوى القيادات التاريخية، وأوزار إختبار دموي شاءت الولايات المتّحدة أن تجريه على أرض تتوافر فيها كلّ مقوّمات الصدام. إجتمعت في أوكرانيا كلّ محفزات التاريخ وتداخلات العرق واللغة مع روسيا، فيما تقدّم الجغرافيا بضفتيّها الروسية والأوروبية الرافد الأساس لإيقاظ كلّ الموروث التاريخي القريب الذي لم يفارق ذاكرة من عاشوا عقوداً داخل الستار الحديدي أو على أطرافه.
ظروف الإختبار وحراجته كانت الحافز للإنتقال بروسيا من حالة التهديد بالحرب الى خيار استخدام القوة العسكرية لتحقيق أهداف سياسية وجيوسياسية، تحوّل الخيار الروسي إلى اختبار لقدرات كلّ الحكومات الأوروبية التي استكانت بعد عقود من التبعيّة للعولمة الأميركية على المستوى الإقتصادي والأمني بكلّ أبعاده.
لم تستطع أوروبا أن تقارب التوتر قبل إندلاع الحرب، بدت قياداتها فاقدة للقدرة على تلمسّ المخاطر المرتفعة لصراع وشيك على حدودها وتداعياته على اقتصادها وأمنها واستقرارها المجتمعي، ولم يتوجس أي من منظّريها من مخاطر استعادة العبث بصراع القوميات واستنفار العصبيات على خلفيّة الأعراق الملوّنة بما يهدد بانهيار قيّم المساواة والمواطنة والديمقراطية التي تنتفي الحاجة لأوروبا بدونها. كذلك لم تستنفر ضراوة الحرب التي اندلعت القادة الأوروبيين للإرتقاء الى مستوى المسؤولية التاريخية، فجلّ ما قدّم حتى الآن ليس سوى مزيد من الضياع والإستسلام للمراوحة الأميركية والدبلوماسية الضبابية، وحلول بائسة، ليس أقلها بؤساً فكرة «الفيلق الدولي» الذي لن يكون سوى الإطار لمزيد من الإستباحة لأمن أوروبا وقيّمها واستعادة لنموذج المرتزقة الذي عرفته الدول الإستعمارية في القرون الوسطى.
من جهة أخرى، تلاقي مجريات الميدان وطبيعة ومقوّمات المدن/ الأهداف التي تدور حولها المواجهات العناوين التي ترفعها روسيا كشروط للتفاوض. فالمدن التي تتمّ محاصرتها من سواحل البحر الأسود وبحر آزوف وصولاً إلى أقصى الحدود الشرقية ليست سوى تجمعات صناعية ثقيلة ودفاعية ومحطات للطاقة النووية ومراكز محورية لصادرات الطاقة من العصر السوفياتي، وإنّ السيطرة الحتميّة عليها ستجرد أوكرانيا من مقوّماتها الدفاعية والإقتصادية كما تريدها روسيا، كما سيشكّل سقوط كييف برمزيّتها كعاصمة وكمقر للقرار السياسي وللدولة آخر الأهداف الروسية وإعلان بداية لمرحلة جديدة في تاريخ أوروبا والغرب بشكل عام.
تعكس العملية العسكرية الروسية وردود الفعل الأوروبية عليها رفضاً غربياً للنموذج الذي يمثّله الرئيس بوتين يقابله رفض روسي من قِبل الرئيس وفريقه للإستسلام للعولمة الغربية بصيغتها القائمة. صحيح أنّ هناك العديد من السياسيين الذين يحلمون بتطبيق النموذج الغربي على روسيا ولكن هذا الميل يصطدم بقوة بتيار تقليدي يجسّده بوتين يطالب بوقف الانزلاق نحو ما يسمّى بـ «الغرب المنحل» وهناك أسئلة حقيقية في الداخل الروسي حول مستقبل وجدوى التماهي مع الغرب، فلهذا الصدام وجهه القيّمي بالرغم من محاولات حثيثة يقوم بها الغرب بالتعاون مع تيارات سياسية في الداخل لفرض القيم الغربية على روسيا.
لا شك أنّ أوروبا وقيمها يقفان أمام تّحديات حقيقية في حمأة هذا الصراع المحموم وهي مستمرة بعد أن تضع الحرب أوزارها، ربما في غضون أسابيع. إنّ جولات التفاوض التي تشارك بها أوكرانيا لا يمكن أن تعنى بأكثر من معالجة المعابر وإجلاء المدنيين وتقديم المساعدات الإنسانية، ولا يمكن أن ترقى إلى القضايا المطروحة التي تطال القارة الأوروبية برمّتها بالدرجة الأولى. وإنّ ما يمكن أن تضيفه أوروبا وما يتناسب مع قيّمها ودورها ليس المزيد من التحشيد العسكري والمزيد من الغرق في البناء على الإنقسامات القومية وسواها وليس في البحث عن مزيد من العقوبات أو عن مصادر بديلة للطاقة، بل في التعامل بواقعية مع روسيا كمتّحد سياسي قائم له قدراته وهواجسه الأمنية والسياسية وكجزء أساس من الأمن الأوروبي بمفهومه الشامل، وإنّ العولمة بنسختها الأميركية قد لا تكون ناجعة في التعامل مع روسيا.
فهل تنجح أوروبا في اجتياز التجربة أم أنّ هناك «ستاراً حديدياً»، أيديولوجياً وليس مادياً فقط سيرتفع مجدداً على امتداد نهر « دينيبر» من كييف حتر البحر الأسود.