أزمة أوكرانيا وعالم ما بعد يالطا
كتب العميد الركن خالد حماده في "اللواء":
ما زال الوقت مبكّراً لرسم الخط البياني الذي ستتّخذه الأزمة الأوكرانية الروسية، فالأيام الأولى لاندلاع القتال بتفاصيلها الميدانية والسياسية والإنسانية والتعبويّة على المستوى الأوروبي والدولي ليست سوى تعبير عن ردود فعل لتلقف تداعيات الجولة الأولى ومحاولة استيعاب لحدث خارج عن المألوف الأوروبي،إستنهض ذاكرة أيقن الأوروبيون منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أنها جزء من تاريخ مضى إلى غير رجعة. الحدث الأوكراني ليس سوى نتيجة طبيعية لعالم تشكّل منذ منتصف القرن الماضي في مؤتمر يالطا على مقاس منتصرين تفاوضوا على العالم، فيما كانت العواصم في كلّ مكان تتساقط على وقع هدير الدبابات وصرخات الجنود، عالم إفتُتح معه عصر التطرفات المذهبية والإثنية التي شقت المجتمعات وحوّلت شعوبها إلى كتل سكانية متناثرة في كيانات قابلة للذوبان والتفجّر عند كلّ استحقاق.
هو عالم تقسيم فلسطين في 1984 وحلف بغداد 1955 وعالم تأسيس وإطلاق الحركات المذهبية المتطرفة من طالبان في أفغانستان إلى ولاية الفقيه في إيران ورعاية نظريات تصدير الثورةوإعلان الجهاد، وصولاً إلى احتلال العراق. وهو عالم رعاية تنظيم الإخوان المسلمين وحركة داعش والحوثيين وفصائل الحرس الثوري الإيراني وارتكاب جرائم الحرب على أنواعها، وعالم حماية حكام مجرمين وتغطية شبكات المخدرات وتبييض الأموال واستباحة الحدود ومقوّمات السيادة الوطنية وسلطة القانون والنجاح في إسقاط مفهوم الدولة في كلّ منالعراق وسوريا ولبنان واليمن والإخفاق في ذلك في جمهورية مصر العربية ودول الخليج العربي.
وعلى المقلب الغربي، إنه عالم تقسيم يوغوسلافيا 1991- 1992 على وقع حروب أهلية بين البوسنة والهرسك من جهة والجيش الإتّحادي من جهة أخرى.واعتراف الغرب بانتهاء الإتّحاد اليوغوسلافيواستقلال الجمهوريات الخمس، وهو عالم تقسيم تشكسلوفاكيا إلى دولتين عام 1993، وعالم إسقاط الخطوط الحمر الأميركية بعد الإبادات الجماعية التي ارتكبها النظام السوري باستخدام الغازات السامة، وهو عالم الدخول العسكري الروسي السافر الى سوريا الذي باركه الأوروبيون والأميركيون على السواء. السمة الأهم للحدث الأوكراني هو أنّ هناك حرباً تجري ومن خارج التوقّعات في الحديقة الأمامية لأوروبا الغربية وحلف الناتو ولا مناص من دخول المعركة للدفاع عن المكتسبات والإرث، فالمجابهة أوروبية/ أوروبية بامتياز وقد تكون تداعياتها مقدّمات لعالم جديد.
إنفجر عالم ما بعد يالطا بوجه مهندسيه. وبالتوازي مع الإستنفارالأوروبي لتقديم الدعم بأشكاله كافة للقوات المسلّحة الأوكرانية بأسرع ما يمكن والإشادة بالمقاومة الأوكرانية وإطلاق النفير العام لتشكيل «الفيلق الدولي» من المتطوعين الراغبين بالقتال، وعقد العديد من الإجتماعات على مستوى الإتّحاد الأوروبي ومع الولايات المتّحدة لفرض عقوبات مالية وإقتصادية على روسيا،فإنّ دروساً مستفادة يمكن استخلاصها من مجريات الأيام القليلة المنصرمة لإندلاع القتال:
أولاً، عدم قدرة الغرب على مقاربة موضوع الطاقة والتسليم بالدور الروسي كمزوّد رئيس بالغاز لأوروبا وتعذّر تأمين بدائل من مصادر أخرى. هذا ما أكّدته الإتصالات التي أُجريت مع كلّ من الجزائر وقطر، فإمكانيات منشآت الإسالة في العالم محدودة وقدرات الناقلات محدودة، هذا عدا التكاليف المرتفعة التي سيتكبّدها الإقتصاد الأوروبي في حال ظهور بدائل. بالإضافة الى ذلك فقد سجل ميل لدى الدول المصدّرة للنفط والغاز لعدم التجاوب مع طلبات زيادة الإنتاج وهذا ما أكدّه الإتصال الذي جرى بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والأمير محمد بن سلمان الذي أكّد التزام المملكة بإتّفاق أوبك Plus.
ثانياً، ظهور مرونة وقدرة على التحرر من الإملاءات الأميركية في موضوع الموقف من الغزو الروسي. هذا ما ظهر في موقف دولة الإمارات العربية في مجلس الأمن وفي القرار الذي أقرّته جامعة الدول العربية واللذين أكّدا على ضرورة مقاربة المسألة الأوكرانية بهدف إيجاد السبل للخروج من الأزمة بعيداً عن مسألة المواجهة.وربما في ذلك أكثر من رد على المواقف الأميركية غير المسؤولة حيال الإعتداءات التي تعرّضت لها كلّ من دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية من الميليشيات الحوثية دون أن تتخذ الولايات المتّحدة أي موقف حازم حيال ذلك.
ثالثاً، بروز تباين في النظر مع أوروبا والولايات المتّحدة في مقاربة المسألة الأوكرانية لدى بعض الدول في منطقة الشرق الأوسط لا سيما تركيا التي تستثمر في موقعها كعضو في حلف الناتو فتزوّد أوكرانيا بالمسيّرات، فيما تحافظ على علاقاتها مع روسيا بعدم التجاوب مع العقوبات المقترحة وفي ما يتعلّق بإقفال المضائق على البحر الأسود التي تعود لها مسألة الإشراف عليها بموجب معاهدة مونترو. بدورها إسرائيل التي أصبحت تنظر الى روسيا كشريك في سوريا تمايزت عن الموقف الغربي حيث أكّدت في بيان مشترك بعد اتصال بين رئيس وزرائها والرئيس الروسي الإبقاء على التفاهمات وقواعد الإشتباك المتّفق عليها مع روسيا في ما يتعلّق بالعمليات الجوية فوق سوريا.
رابعاً، تعذّر تحقيق إجماع دولي على استثناء روسيا من نظم «سويفت» نظراً لحجم الإستثمارات الأوروبية في روسيا ولموقع روسيا المتقدّم على لائحة الدول المصدرة، فقد يؤدي هذا الإستثناء إلى قيود تفرضها روسيا على صادراتها من الغاز،هذا بالإضافة أنّ التشابكات الإقتصادية مع روسيا ستطال الإقتصاد الأوروبي وروسيا على السواء.كلّ ذلك أبقى التدابير المتّخذة في بعض الدول لا سيما ألمانيا وفرنسا وتركيا محدودة وموجّهة وعاجزة عن إحداث المفاعيل المطلوبة.
تخفي المسارعة والنجاح في جمع الفريقين المتقاتلين على طاولة المفاوضات على الحدود البلاروسية الأوكرانية دليلاً قوياً على محاولة الجميع لملمة أشلاء عالم ما بعد يالطا المترنح. المصالح الأميركية في تطويع الإقتصاد الأوروبي والهلع الأوروبي من إدخال أوروبا في صراع دموي غير محسوب قادرين على تحقيق التوازن المطلوب مع طموحات الرئيس الروسي وإبقاء المفاوضات مفتوحة وقطع الطريق على الدخول في المجهول وولادة عالم جديد.