لئلّا "يطير" لبنان
كتب عقل العويط:
أكتب هذا المقال لأنّنا لسنا بخير، هنا في لبنان. وأسمح لنفسي بتواضعٍ شديدٍ للغاية، بأنْ أستعين بالمثل الفرنسيّ الطازج لألفت إلى المعضلة اللبنانيّة المستعصية.
لقد "نجت" فرنسا أوّل من أمس الأحد من كارثةٍ سياسيّة ووطنيّة كبرى، كان يمكن أنْ تتردّد مفاعيلها المأسويّة في جهات العالم الأربع. لقد تمّ "تحييد" هذه الكارثة، موقّتًا، بلعبة كارامبول سياسيّة ذكيّة (البعض يعتبرها ماكرة وماكيافيليّة وانتهازيّة...). أيًّا يكن، حسنًا فعل الفرنسيّون بإقامة هذا "السدّ" (الانتخابيّ) الموضوعيّ الذي شيّدوه، للحؤول دون وقوع الشرّ الأعظم. وهو درسٌ مذهل في الوعي والحكمة وبعد النظر والرويّة والتواضع (والدهاء)، يجب أنْ يتعلّم منه العالم كلّه.
تصوّروا على سبيل الافتراض النظريّ، أنْ تنقلب فرنسا على قيمها الجمهوريّة، فتتحوّل أرضًا للعنصريّات والشوفينيّات والغرائز والحروب الأهليّة والاقتتالات وأعمال العنف والفوضى. ماذا كانت لتكون النتيجة في أوروبا والعالم، وها هنا عندنا في لبنان؟
فتيلٌ "قياميٌّ" كهذا، لو قُدِّر له أنْ يشتعل، لكانت ألسنة نيرانه طاولت ليس دول المتوسّط فحسب بل دول الشمال والجنوب قاطبةً، وصولًا إلى آخر المعمورة.
هذا يحتّم على الأطراف الفرنسيّين كافّة أنْ يعوا تمامًا ما يجب أنْ يلي الخطوة التي اجترحوها يوم الأحد. ذلك أنّ "تحييد" التطرّف اليمينيّ الأرعن وغير المسبوق، الذي ينافسه في الضفّة المقابلة تطرّفٌ شعبويٌّ عصابيٌّ (ميلانشونيّ) مضادّ لا يقلّ عنه خطورةً وإلغاءً، يبقي المشكلة، ولا يحلّها. هنا تبرز الحاجة الفرنسيّة المطلقة والسريعة إلى استخلاص درسٍ سياسيٍّ مذهل آخر يتمثّل في تحقيق أمرين متلازمين:
- معالجة الأسباب البنيويّة لمشكلة التطرّف، وعناصرها ومكوّناتها ومولّداتها. كل إرجاء لهذه المعالجة البنيوية، من شأنه أنْ يراكم الخطأ، وصولًا إلى الانفجار الهائل الذي سيودي، لا مفرّ، بالجمهوريّة الخامسة، وبالدور الإنسانويّ والثقافيّ والديموقراطيّ والحضاريّ الفريد الذي يجب أنْ تعود فرنسا إلى الاضطلاع به مع ذاتها وفي العالم.
- اجتراح حلٍّ دستوريّ سياسيّي رؤيويّ يمكّن فرنسا من أنْ تنقذ جمهوريّتها الخامسة، وتطوّرها، وتعقلنها، وتجعلها قابلة للحكم، بعقلانيّةٍ تستوعب التسويات السياسيّة، الآنيّة والظرفيّة، وتتخطّاها إلى ما هو قابل للحياة والصيرورة الديموقراطيّة.
أعود لأقول إنّي أكتب هذا المقال (الفرنسيّ) لأنّنا لسنا بخير هنا في لبنان. أكرّر: لأنّ لبنان ليس بخير.
علمًا أنّ العالم كلّه ليس بخير. وكيف يكون العالم بخير، إذا كان المتنافسان على رئاسة الدولة العظمى في العالم، من أسوأ ما أنتجته السلالة البشريّة من نماذج سياسيّة (مسوخ) على مرّ الأزمان. هل يجب أنْ أستدرج الأمثلة المخيفة من روسيا وأوكرانيا والصين وتايوان وكوريا وفلسطين والسودان وهلمّ، لأقول إنّ العالم ليس بخير؟
هل يجب أنْ أذكّر هذا "العالم" بأنّه يحمي الوحش الصهيونيّ الذي يلتهم فلسطين ويبيد شعبها، ويجعل الوجود الفلسطينيّ مشرّعًا برمّته على الاستئصال المطلق؟!
لبنان ليس بخير. ولبنان ضرورة. والحلّ فيه ليس من الخارج، ولا بالخارج. لا مفرّ من أنْ ينشئ الأطراف الجمهوريّون والدستوريّون اللبنانيّون "سدًّا" سياسيًّا منيعًا وحكيمًا وبعيد النظر وسلسًا ومتواضعًا في الآن نفسه، لمنع التطرّف والعنجهيّة والإلغاء والاستقواء والغلبة والعنف والترهيب والسلبطة والبلطجة.
لا مفرّ من "السدّ"، الآن، ومن الداخل، وبالداخل، لئلّا "يطير" لبنان.