خطايا أدت الى انهيار لبنان
كتب محمد سلام لـ "هنا لبنان" :
عدة خطايا (جمع خطيئة) أدت إلى إنهيار لبنان الكبير، وتعمل على دفنه في قعر قبر عميق لا شاهد له منعاً لتخليد ذكراه كي لا يحاول أحد تكرار تجربته.
قبل الدخول في تعداد الخطايا وتسمية مرتكبيها لا بد من التأكيد على أن تاريخ لبنان الكبير منذ إعلان تأسيسه في العام 1920 لم يشهد أي جفاء بين الكنيسة بمفهومها الجمعي والمرجعيات الروحية لبقية الطوائف اللبنانية حتى مقاطعة “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى” والنواب الشيعة دعوة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي جميع رؤساء الطوائف والكتل النيابية إلى لقاء مع أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين في مقر البطريركية المارونية ببكركي.
المقاطعة تم ترقيعها بروتوكوليا بحضور ممثل البطريرك الراعي المونسينيور عبده ابو كسم وبقية ممثلي المرجعيات الروحية مناسبة شيعية تحت عنوان “غديرية بيروت-2024” برعاية وحضور نائب رئيس المجلس الشيخ علي الخطيب.
معروف أن الترقيع البروتوكولي على الطريقة اللبنانية يفتقر عادة إلى جدية المضمون، فهل أزالت جراحة الترقيع التجميلية ندوب الجفاء ليس مع الكنيسة المارونية فقط بل مع غيرها أيضاً من المرجعيات الروحية المسيحية والإسلامية التي ساهمت في تغليف الآلام برماد الوئام؟
الجدير ذكره في هذا الصدد أن تاريخ العلاقات بين المسلمين السنة كمرجعية روحية وكتنظيمات سياسية لم تشهد أي خلاف مع الكنيسة في ال 104 سنوات التي هي عمر لبنان الكبير.
وقبل الإنتقال إلى سرد الخطايا لا بد من التوضيح أن اللائحة ستشمل فقط غير المقاتلين وغير المسؤولين السياسيين في حكومات ما قبل إنتهاء الحرب وصدور قانون العفو العام في آذار العام 1991 عن كل الجرائم التي إرتكبت منذ العام 1975.
يذكر أن إغتيال المقاتلين أو القادة السياسيين لأطراف مشاركة في الحرب هو من طبيعة الحروب، فالغرب حاول إغتيال هتلر والرايخ الألماني حاول إغتيال رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل.
وتشمل الخطايا أيضا كل الجرائم التي إرتكبت بعد صدور قانون العفو العام، لأنها إرتكبت ضد عُزّلٍ كون البلد ليس في حالة حرب
-1- في هذا الصدد يذكر أن “الخطيئة الأولى” التي هزت لبنان تسبب بها “سياسي” مسيحي ماروني، أما من أنقذ البلد من إرتدادات مفاعيلها فهو أيضاً مسيحي ماروني مع فارق أساسي هو أن المنقذ عسكريٌ والمتسبب بالبلية سياسي .
بدأ دخان الحرب الأهلية الأولى التي عرفت بثورة 1958 يتصاعد من القصر الجهوري في منطقة القنطاري ببيروت في 30 تموز من ذلك العام عندما رفض الرئيس كميل شمعون قطع العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا وفرنسا اللتين كانتا قد شاركتا مع إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956 ما شكل ضغطا على الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
وتصاعدت حدة التوتر عندما أعلن شمعون تأييده لحلف بغداد الذي تأسس سنة 1955 لحشد الأقليات بوجه المد السوفياتي في الشرق الأوسط وضم بريطانيا وتركيا وإيران وباكستان وإنسحب منه العراق بعد ثورة عبد الكريم قاسم على النظام الملكي.
وتحولت مناوشات الشارع إلى ثورة إعتمد فيها شمعون على قوات الدرك للدفاع عن القصر الجمهوري لرفض اللواء فؤاد شهاب توريط الجيش في صراع أهلي بين اللبنانيين.
وعندما أسقط عبد الكريم قاسم النظام الملكي العراقي في 14 تموز إشتعلت الثورة في لبنان، فطلب شمعون دعما عسكرياً أميركيا وأرسل له الرئيس الأميركي إيزنهاور 1،400 جندي أميركي تم إنزالهم على شاطيء ضاحية الأوزاعي، وبقيت القوة الأميركية في لبنان حتى إستقالة شمعون وإنتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية بالتوافق مع عبد الناصر في تشرين الأول 1958.
قاد فؤاد شهاب عهداً حيادياً إيجابياً ومتوازناً وأسس المؤسسات التي نظمت الدولة وحولتها إلى دولة مؤسسات بعدما كانت مجرد شكل متمدن لمضمون متخلف.
النور الوحيد الذي أبقى الأمل حياً في نفق ثورة العام 1958 المظلم كان عدم تورط المسلمين بشقيهم الروحي والشعبي في أي خلاف مع الكنيسة، مضافا إليه وجود غبطة البطريرك مار بولس بطرس المعوشي على كرسي بكركي فهو كان سياسياً مؤيدا لفكرة القومية العربية ما عقّد علاقاته مع شريحة من السياسيين الموارنة المؤيدة للغرب عموما، لا سيما مع الرئيس كميل شمعون، الذي أطلق على البطريرك إسم “محمد المعوشي”….
وعندما طلب شمعون معونة المارينز الأميركيين وتم تزويده ب 1،400 جندي إنزلوا على شاطيء الأوزاعي قال البطريرك المعوشي “عندما تطأ أول رجل لجندي أميركي لبنان، سأكون أول الذين يخوضون المعركة.”
وخلال حقبة تنامي التيّار الناصري إثر تأسيس “الجمهورية العربية المتحدة” من القطرين المصري والسوري استطاع البطريرك المعوشي المساهمة في الحفاظ على استقلال لبنان، رغم أن صداقة جمعته مع جمال عبد الناصر، فعارض اتفاق القاهرة لعام 1969 لما تضمّنه من تنازل عن سيادة الدولة اللبنانية لصالح منظمة التحرير الفلسطينية.
-2- الخطيئة الثانية نفذت في 26 شباط 1975 عندما أٌطلقت النار على رئيس بلدية صيدا ونائبها السابق معروف سعد أثناء قيادته في الشارع الرئيسي للمدينة تظاهرة نقابات صيادي الأسماك المعترضة على السماح لشركة بترومين التي يرأس كميل شمعون مجلس إدارتها بالصيد في المياه الإقليمية على طول الساحل اللبناني مستخدمة سفناً حديثة تعتمد الصيد بطريقة جر شباك كبيرة وتخزين الصيد في برادات على متنها، ما يحرم صيادي الزوارق اللبنانيين من رزقهم.
توفي معروف سعد بمستشفى الجامعة الأميركية ببيروت في 6 آذار، وإعتبر إغتياله أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى إشتعال الحرب الأهلية اللبنانية بعد أقل من شهرين في ما عرف ببوسطة عين الرمانه وإستمرت حتى 13 تشرين الأول العام 1990 وأسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 120 ألف شخص وتشريد اكتر من 76 ألف شخص إضافة إلى ما يقارب 1،5 مليون مهاجر فتحت لهم أبواب الهجرة الشرعية إلى دول الغرب.
خطورة إغتيال معروف سعد تكمن في أنها كانت أول عملية إغتيال نفذت محليا لسبب غير سياسي ما أدى إلى إنشطار المجتمع اللبناني عمودياً ودفع المسلمين للتحالف مع القوى الفلسطينية وإعلانها “جيش المسلمين” رداً على من إتهموه بقتل معروف سعد.
-3-أما الخطيئة الثالثة فكانت إغتيال المفتي الشيخ حسن خالد في 16 أيار العام 1989 بمتفجرة إستهدفت موكبه أثناء مغادرته دار الفتوى بمنطقة عائشة بكار ببيروت، وإتهمت مخابرات نظام الأسد بإغتياله.
ونظراً لتجنب المسلمين تقديم التعازي بسماحة المفتي في دار الفتوى المحاطة بطواغيت مخابرات الأسد ، قُرعت أجراس بكركي وفُتح الصالون لتقبل المعزين، وكنت أحدهم.
سألني غبطة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، رحمه الله، بلكنته المحببة: “راجع عالغربية كابني؟”
لم ينتظر جوابي وأضاف: مش مشكورة رجعتك اليوم.” وهكذا كان.
بكيت المفتي حسن خالد مجددا يوم توفي البطريرك صفير، أحسست أن جبل الصخر الذي كان قد تشقق يوم إغتيال سماحة المفتي قد إنهار كليا مع وفاة غبطة البطريرك.
-3- الخطيئة الرابعة كانت إغتيال الرئيس رينة معوض في 22 تشرين الثاني العام 1989 أثناء مغادرته إحتفال ذكرى الإستقلال في وزارة الداخلية بمنطقة الصنائع ببيروت بعد 17 يوماً على إنتخابه.
سيارة المرسيدس الكحلية المصفحة التي كانت تقل الرئيس معوض مزقتها عبوة عصف موجّه زُرعت في غرفة على جانب الطريق وبدأت سيارات الإطفاء وجرافة بتنظيف الطريق من مخلفات الإنفجار بإشراف عناصر من المخابرات السورية ما أزال مسرح الجريمة كلياً وألغى الجدوى من أي تحقيق.
حتى حطام سيارة المرسيدس إختفى من ثكنة الحلو عندما طلبته شركة المرسيدس لتفحّصة وتحديد قوة العصف كونها كانت مسؤولة عن التصفيح.
وما زالت قضية إغتيال الرئيس معوض محاطة بغلاف من “الأسرار المعلومة” كما غيرها من الجرائم التي نفذها نظام مخابرات الأسد بالتعاون مع أتباعه في لبنان.
-5- أم الخطايا، أو الخطيئة الخامسة، إرتكبت بعد قرابة 14 عاماً من إنتهاء الحرب الأهلية، وتحديداً يوم إغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري في 14 شباط العام 2005 بسيارة مفخخة ب 3 أطنان من المتفجرات على الطريق البحرية مقابل فندق السان جورج بعد تعطيل الكاميرات على طول الطريق التي سلكها موكبه.
المحكمة الخاصة بلبنان ذات الطابع الدولي أدانت غيابياً في حزيران العام 2022 المدعوين حسن حبيب مرعي وحسين حسن عنيسي إضافة إلى سليم جميل عياش المدان سابقاً بالضلوع في التفجير الإنتحاري الذي قتل الحريري و 21 شخصاً .
بغض النظر عن عدد المدانين، الثابت هو أنهم جميعا أعضاء في حزب إيران المسلح وقد صدرت الأحكام بحقهم غيابيا .
وكان أمين عام حزب إيران المسلّح قد قال في كلمة متلفزة عبر قناة المنار في تموز 2011 “… هذه المحكمة وقراراتها وما ينتج منها بالنسبة إلينا أميركية-إسرائيلية بوضوح. بناء عليه نرفضها ونرفض كل ما يصدرعنها من إتهامات باطلة أو أحكام باطلة ونعتبرها عدواناً علينا وعلى مقاومينا وظلماً لشرفاء هذه الأمة.”
وأضاف : “لن يكون في الإمكان توقيف المتهمين لا في 30 يوماً، أو 60، أو 30 سنة أو 300 سنة.”
ما يبقى مستغرب هو لماذا سلك موكب الرئيس الحريري، رحمه الله وطيب ثراه، الطريق البحرية من دون أن يلاحظ فريقه الأمني أن جميع الطرق المؤدية من مقر المجلس النيابي في ساحة النجمة إلى قصر قريطم كانت تشهد حفريات تعيق المرور عبرها … بإستثناء الطريق البحري الذي ترك سالكاً فسلكه وإستهدف فيه.
السؤال هو: هل ستظهر الحقيقة، أم أن في لبنان كل شيء يظهر إلا الحقيقة.