الجمهورية الإسلامية في العصر الأميركي
قدمت عملية طوفان الأقصى وامتداداتها الإيرانية الى الساحات العربية، ومنها جنوب لبنان، ما يكفي من المؤشرات التي يجب التوقف عندها ملياًّ لفهم العلاقات الأميركية الشرق أوسطية، وفي مقدّمتها العلاقات الأميركية الإيرانية والعلاقات الأميركية الإسرائيلية، بما يسمح بقراءة نظام المصالح المعمول به بين الدول الثلاث، وربما بتعبير أدق حدود وضوابط المصالح الإيرانية والإسرائيلية في ظل نظام الرعاية الأميركية القائم..
لم يكن النأي بطهران الذي قدّمه كل من مرشد الجمهورية ووزير خارجيتها عن عملية طوفان الأقصى كافياً لحزب الله أو لمن يدور في فلكها للتفكير في أبعاد هذا الموقف، كذلك لم يتوقف هؤلاء عند التلقف الأميركي الإيجابي له، بل ربما اعتبروه نوعاً من الحذاقة التي تمارسها طهران والتي لن تلبث أن تعود عنه لتتموضع في مكانها المفترض في لحظة مناسبة يعود تحديدها لها وحدها.
وفي السياق نفسه لم تحظَ كل عمليات القصف الإسرائيلي شبه اليومية التي طاولت مواقع الحرس الثوري في العمق السوري وسقط بنتيجتها العديد من قيادييه بلحظة تأمل وتبصّر لدى حلفاء طهران لإعادة النظر أو لمحاولة فهم خارجة عن المألوف لحقيقة الدور الإيراني في المنطقة وثوابته، وما الذي تعنيه طهران بالصبر الاستراتيجي وعدم الرغبة في توسعة الحرب بالرغم من الخسائر في صفوف أذرعها. لكن بالمقابل لا يمكن لكل هؤلاء تجاهل ملابسات وتداعيات تدمير إسرائيل للقنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من الشهر الجاري وإشاحة النظر عن التناغم الأميركي مع إيران وإسرائيل في ضبط رد الفعل الإيراني في ليل 13-14 الجاري بالرغم من كثافته والرد الإسرائيلي على الرد والذي أعقبه تدمير لقواعد الحشد الشعبي في العراق شمال بابل حيث تتمركز رئاسة أركانه والقاعدة الصناعية العسكرية التي يضع يده عليها.
التناغم الإسرائيلي الإيراني تحت مظلة الولايات المتحدة في الرد والرد على الرد عنوانه عدم سقوط قتلى من الطرفين، وهذا لا يسري طبعاً في لبنان وسوريا والعراق حيث لا يستوجب العدوان الإسرائيلي الرد وحيث تستباح دماء اللبنانيين والسوريين والعراقيين وتهدم بيوتهم. يمثّل لبنان الساحة الأكثر إستباحة ليس فقط لجهة التدمير الممنهج الذي تتعرض له القرى الحدودية والعدد الكبير من الشهداء اللبنانيين أو لجهة إستحضار كتائب القسّام إلى الجنوب لتقديم ما أمكن من مبررات للعدوان على لبنان، بل باستمرار ما تبقى من الطبقة السياسية في لبنان بوضع الرأس في الرمال إعتقاداً أن ذلك سيمرر العاصفة بأقل قدر ممكن من المواجهة مع حزب الله الذي يتصدر المشهد قسراً بما لا يراعي مصير لبنان وقدراته ومصالحه الوطنية.
من حق طهران أن تبحث عن مصالحها وهي تفعل ذلك بكل كفاءة منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية كسائر الدول الغربية والإقليمية بالتنسيق والتعاون مع الولايات المتحدة التي رأت فيها شريكاً قادراً على تأمين كل فرص الإستثمار السياسي والأمني سواء في المشرق العربي عبر نظرية ولاية الفقية التي تمثّل وجهها المذهبي أو في دول الخليج العربي عبر طموحها لاستعادة حلمها الأمبراطوري. ومن حق طهران في زمن الآحادية القطبية الأميركية أن تختار الإنصياع لضوابط وقيود الولايات المتحدة وأن لا تنزلق إلى مواجهة مع إسرائيل حفاظأ على مصالحها وأن تختار عدم الإعتراف بالهجوم الإسرائيلي على أصفهان، ومن حق إسرائيل كذلك أن تبادلها الإنكار بالمثل وأن لا تعترف بمسؤوليتها عن الهجوم.
ما قبل الهجوم الإسرائيلي على القنصلية ليس كما بعده، هذا صحيح ولكن ليس بالمعايير التي تروْج لها طهران بنقل المشهد الاقليمي الذي تعذّر عليها التعبير عنه في غزة إلى جنوب لبنان، أو التي يروْج لها حزب الله عبر محاولة استثمار وترجمة النفوذ الإيراني في معادلة مصادرة السلطة. ما بعد الهجوم وما بعد ردود الفعل عليه وما بعد الرد على الرد هناك ضرورة لوقف التكاذب وإعادة النظر بكل المفردات السياسية التي أُخضع لها العقل السياسي اللبناني والسوري والعراقي والتي صيغت على أساسها مفاهيم الممانعة والمقاومة ومحور الشر ووحدة الساحات وسواها وإعادة إخضاعها لمعادلة المصالح المعمول بها.
ما بعد الهجوم وردود الفعل عليه التي ستتوالى فصولاً منسقة في العصر الأميركي، هناك ضرورة لبنانية لتغيير المقاربة النمطية لدور إيران في المنطقة ليتلاءم مع العصر الجديد، بتجريده من عناصر القداسة التي أسبغتها عليه كل السرديات التي رافقت قيام الجمهورية الإسلامية وتوْغلها في المنطقة، والتي أضحت جزءاَ لا يتجزأ من العقيدة السياسية/الأمنية لأذرع إيران وخطابها السياسي. في عالم المصالح ليس هناك من مقدّس والكيانات السياسية خاضعة لعلم الفيزياء وهي قابلة كذلك للإنفجار.
العميد الركن خالد حماده - اللواء