وحدة الساحات ... ما هي الأثمان؟
تضع طهران مسألة «وحدة الساحات» في رأس أولوياتها بل تعتبرها الورقة الأثمن وجواز العبور إلى طاولة التفاوض الإقليمية التي تديرها الولايات الأميركية وتتحكم بمفاصلها. محاولات وإجراءات تحويل هذا العنوان الى حقيقة ملموسة لا يبدو متاحاً إلا عبر الساحة اللبنانية التي تستخدمها طهران دون استئذان منذ العام 2006 والتي أصبحت بعد أزمة الشغور الرئاسي متاحة لكل عابر سبيل استطاب التوظيف والإستثمار السياسي.
فبعد أن أكدت الجمهورية الإسلامية مراراً على لسان مرشدها ووزير خارجيتها أن طوفان الأقصى كما «المناوشات» العابرة للحدود في جنوب لبنان والأنشطة الحوثية في البحر الأحمر تعود لقرارات ذاتية تتخذها فصائل المقاومة دون أي وصاية لطهران عليها، تؤكد الإجتماعات التي تعقد في بيروت أن طهران انتقلت الى مرحلة جمع هذا الشتات المقاوم وتحويله مجدداً إلى ورقة تفاوض تعيدها الى ميدان التقاطع مع واشنطن عبر الشرفة اللبنانية المطلة على إسرائيل. العودة الإيرانية مطلوبة وإن بشروط أميركية أكثر صرامة بعد تعثر ظروف الإختراق في غزة في خضم الإصرار الأميركي على التفرّد بإدارة الملف الفلسطيني وحراجة العلاقات العربية الأميركية بالرغم من طموحات حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف بقيادة بنيامين نتاتياهو.
في هذا السياق يندرج إجتماع السادس عشر من الشهر الجاري في بيروت الذي شارك فيه قادة كبار من حركتيّ حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مع حركة أنصار الله اليمنية (الحوثيين) ــــــــ وفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية ــــــــ لمناقشة أعمال المقاومة في المرحلة المقبلة ومنها توسيع نطاق الهجمات لتشمل السفن التي تبحر في المحيط الهندي باتّجاه المسار البديل في أقصى جنوب أفريقيا. وفي السياق عينه يأتي استقبال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله وفداً قيادياً من حركة حماس برئاسة خليل الحية نائب رئيس الحركة في غزة لاستعراض آخر الأوضاع والتطورات على المستوى الميداني في قطاع غزة والضفة الغربية وجبهات الإسناد المتعددة وفق بيان للحزب عبر تلغرام.
ومقابل المحاولات الإيرانية للتقدم إلى المشهد الإقليمي عبر وحدة الساحات التي يتحمل تبعاتها المباشرة لبنان ، تقدم مجريات الميدان والتفاوض في غزة معطيات مختلفة قد تأخذ الوضع في المنطقة الى ما يمكن اعتباره «ستاتيكو إقليمي برعاية دولية» يمتد من البحر الأحمر حتى البحر المتوسط مروراً بسوريا والجنوب اللبناني، بما في ذلك الملف الرئاسي اللبناني الذي أضحى أحد أدوات التعبير عن التجاذب الدولي وتعليق عمل المؤسسات الدستورية إلى أجل غير مسمّى.
وفي هذا الإطار يختصر المشهد في غزة بالتعثر المستمر لجولات التفاوض وتعذر الوصول إلى قواسم مشتركة بين وقف إطلاق نار دائم وانسحاب إسرائيلي كامل من غزة وفقاً لحركة حماس كشروط ملزمة لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، وبين إصرار إسرائيل على إطلاق سراح الأسرى مقابل وقف إطلاق نار مؤقت والإحتفاظ بمنطقة عازلة. وبالتزامن مع التعارض الواضح بين موقفي إسرائيل وحماس تعيش واشنطن إنقساماً حاداً داخل اللوبي اليهودي عبّر عنه السيناتور الديمقراطي اليهودي تشارلز شومر
- وهو من أكثر مؤيدي إسرائيل في الكونغرس عبر أربعة عقود- حيال الموقف من الحرب في غزة وحيال استمرار نتانياهو في السلطة.
إتهم شومر، وهو رأس الأغلبية في مجلس الشيوخ والأمين على المصالح إسرائيل في مجلسي النواب والشيوخ، نتنياهو بتحويل إسرائيل إلى دولة مارقة وأنه يعمل لصالح إسرائيل بل لصالح فئة متطرفة من المجتمع الإسرائيلي، وقد دعا الإسرائيليين إلى إنتخابات جديدة والتخلي عن حكومة نتنياهو المتطرفة، بما يعبّر عن إنقسام واضح في النخبة اليهودية داخل الولايات المتحدة وبما يمكن اعتباره نقطة تحوّل في العلاقات الإسرائيلية الأميركية..
إزاء كل ذلك، لا تبدو واشنطن الغارقة في تقييدات الإنتخابات الرئاسية في موقع القدرة على تجاوز معطيات الميدان وإتّخاذ أي موقف حاسم حيال التمرد الإسرائيلي وحيال الحرب في غزة، وقد يكون أقصى ما تطمح إليه هو الحفاظ على مجموعة من العناصر لإستمرار الستاتيكو القائم في غزة، وهي عدم الموافقة على إجتياح بري لجنوب القطاع، وتأمين ما يكفي من المساعدات الإنسانية لسكان القطاع والحفاظ على ديمومة التفاوض.
أمام اكتمال عناصر ثبات المشهد في غزة، ستتمكن واشنطن من الإمساك بالوضع وكبح جنون المغامرة الإسرائيلية في رفح لتمرير الإنتخابات الرئاسية، فيما سيدفع لبنان أثمان اختبار نظرية «وحدة الساحات» أمام «ستاتيكو التدمير» المستمر.
العميد الركن خالد حماده - اللواء