هوكشتاين وبيت الطاعة الإيراني
في خضم التعثر الذي تشهده مفاوضات غزة ما بين وقف مؤقت لإطلاق النار تدعو إليه إسرائيل وتبادل محدود للأسرى والسجناء الفلسطينيين وإصرار حماس على عدم تقديم «أي تنازل» حيال وقف نهائي لإطلاق النار وانسحاب للقوات الإسرائيلية من قطاع غزة مقابل أي اتّفاق للإفراج عن الرهائن، إتهم تقرير للموساد، صدر في نهاية الأسبوع المنصرم، حركة حماس بأنها «متمسكة بموقفها وكأنها غير مهتمة بالصفقة، بل تسعى جاهدة لإشعال المنطقة خلال شهر رمضان على حساب السكان الفلسطينيين في قطاع غزة». ما يمكن قراءته في العقل الإسرائيلي حيال هذا الإتهام هو تبرير مسبق لجولة دموية قادمة في جنوب القطاع وليس رغبة إسرائيلية في متابعة تفاوض تحول حماس دون استكماله.
يتقاطع الإتهام الإسرائيلي مع تأكيد الرئيس الأميركي جو بايدن أن التخلي عن دعم إسرائيل هو خط أحمر وأن من حقها ملاحقة حركة حماس، وهذا يعني أن إحتمالات عودة التصعيد العسكري إلى قطاع غزة لا زالت مطروحة كخيار أميركي، بالرغم من إعلان بايدن تمسكه بوقف مؤقت لإطلاق النار وبعملية تبادل جزئية للأسرى يمكن البناء عليهما للوصول الى وقف دائم لإطلاق النار. وفي هذا الإطار تصبح قراءة الإهتمام الأميركي بتسهيل عمليات التزوّد بالمواد التموينية عبر البحر وإقامة رصيف بحري عائم على شاطئ غزة في غضون شهرين ـــــــ كبديل عن معبريّ رفح وكرم أبو سالم ــــــ عوامل مرجّحة لاستكمال الهجوم على رفح، بعد انتفاء الحاجة لوجود سكان القطاع في الجنوب بالقرب من تلك المعابر وإبعادهم عن بقعة العمليات نحو الميناء الجديد في وسط القطاع. وبالتالي فإن العمل العسكري في حال حصوله سيحقق ما تريده إسرائيل لجهة الإبقاء على إحتلال القطاع لفترة طويلة، وربما في مرحلة لاحقة استخدام الضغط العسكري لإكراه سكان القطاع على طلب اللجوء إلى أي مكان آمن بما يحقق رغبة إسرائيل في إفراغ القطاع من سكانه.
إزاء التأكيد الأميركي على الفصل بين المسار التفاوضي في غزة والإشتباكات في الجنوب اللبناني، أتت زيارة موفد الرئيس الأميركي آموس هوكشتاين الى بيروت في إطار السعي الدبلوماسي للبحث عن مخارج لإستقرار دائم في الجنوب. طبعاً لم يكن مطلوباً القبول بما عرضه الموفد الأميركي، ولكن العجز كان واضحاً في تقديم مقاربة لبنانية إزاء العرض الأميركي. لقد أشاح المسؤولون بنظرهم عما حملته تلك الزيارة من مؤشرات لمخاطر مرتقبة على لبنان فربما لم تسمح مساحات الحرية المتاحة لهم بأكثر من الرفض والإحجام عن تقديم البدائل.. أجل لقد توزّع من التقاهم هوكشتاين على ثلاثة فئات، فئة ملتحقة بطهران وثانية تخشى طهران وثالثة أقصى ما تطمح إليه هو العودة الى ما قبل الثامن من أكتوبر وإلى منطق التسويات التي تفتقر لأي أُفق. وقد يكون في إجهاض المساعي التي قامت بها كتلة الإعتدال النيابية للبحث عن آلية لإنتخاب رئيس للجمهورية وفي ضبابية مواقف حزب الله وحركة أمل حيالها ، كما في تشتيت جهد اللجنة الخماسية ما يكفي من الدروس للقول أن كل ملفات لبنان من رئاسة الجمهورية إلى القرار 1701 مروراً بملفات الإصلاح المالي والإداري خاضعة لمعادلة القوة نفسها التي تتحكم بها طهران.
لم يكن من الصعوبة بمكان لدى هوكشتاين أو سواه من الدبلوماسيين الذين اختبروا ساسته الإستنتاج أن لبنان قد افتقد مناعته، وأن ما بلغته هشاشة الحياة السياسية في لبنان كافٍ لتمرير كل ما تريده الولايات المتحدة وما تريده إسرائيل من أهداف، وأن المواقف المتناقضة حيال بديهيات الحياة الوطنية كافية لإحداث شرخ داخلي في أية لحظة، شرخ أشد عمقاً من كل الدمار الذي أحدثته آلة الحرب الإسرائيلية حتى الآن على امتداد الشريط الحدودي. لقد حاول هوكشتاين وقبله اللجنة الخماسية وسائر الموفدين الدوليين البناء على ما في عقول السياسيين لإنقاذ لبنان لكن ما يبدو أن مصير الوطن مرهون بما في الصدور المحتقنة وليس بما يجب أن تختزنه العقول.
إن الإصرار على ربط لبنان ميدانياً بغزة لن يضيف أي نقطة قوة إلى المسار التفاوضي المحكوم بثوابت تصر عليها حماس وهي وحدها من يملك حق التنازل عنها أو التفاوض عليها، في حين لم تبدِ حماس أي موقف يلاقي ما يدعيه حزب الله من دور في مساندة غزة. وهذا يعني أن الشراكة التي يدعيها حزب الله ليست سوى إصرار على رهن مصير لبنان واللبنانيين لا سيما الجنوبيين بموقف فوقي اتّخذته طهران بطريقة قسرية عن هياكل دستورية جُردت من أدوارها أسوّةً بمثيلاتها في سوريا والعراق واليمن وأوكلت تنفيذه لحزب الله.
وحدة الساحات التي أُعلنت قبل طوفان الأقصى جعلت غزة ضاحية في الجنوب اللبناني، فأضحت الحرب في غزة خرقاً للقرار 1701 يستوجب الرد من حزب الله وليس من الجيش اللبناني. هذه المعادلة السوريالية التي حاكت طهران خيوطها المذهبية من البحر الأحمر الى المتوسط وفرضت عناوينها وقواعدها على اللبنانيين كما على سواهم من شعوب المشرق العربي لن تعيد هوكشتاين الى بيت الطاعة الإيراني بل يعود للبنانيين وحدهم مسؤولية الخروج من متاهاتها.
العميد المتقاعد خالد حماده - اللواء