نواف سلام: فدائي العدالة الضائعة في بلادنا
نواف سلام. إسم يكفي لذكره أن يستعيد المرء معه مآثر كثيرة، وضغائن أكثر. مآثر الرجل جلّها مستمد من تجارب خارجية، أو مراحل تاريخية خطّها في حياته. أما الضغائن فهي لحسابات الصغائر في الزواريب اللبنانية والدساكر، على قاعدة أن لا فضل لنبي بين قومه. هو أكثر من ألقيت عليه مظالم ومَكالِم، استفحل مطلقوها في صراعات الزبائن وهواة نصب الكمائن، لكنه آثر التمسك بالصمت، إما لمهنة أو لترفع، ولوجل من الانزلاق إلى الردود على شتائم واتهامات. لازم الرجل قوله في صمته، فاكتفى مستمعاً وضاحكاً في غالب الأحيان، غير طامح لكسب أو فوز بمنصب أو موقع، مفضلاً الانسجام مع ذاته، أو مع تاريخ لم يبدأ في تخصصه بالحقوق في الجامعة الأميركية في بيروت، ولم يستمده فقط من تراث عائلي نسبة لآل سلام وزعامة بيروت. هو الذي ابتدأ ما أراد سلوكه فدائياً على طريق لبنان، استقلاله، عروبته، وعلى طريق قضية فلسطينية، جاب في سبيلها وسبيل الجنوب في دساكره وقراه من الرشيدية إلى كفرشوبا إبان سبعينيات القرن الفائت في مواجهة الاحتلال والاجتياح.
باكراً خرج نواف سلام من عباءته البيروتية، أو ربما حاك عباءة حقيقية لبيروت العاصمة في التحاف لبنان بأسره واحتضانه، بدءاً من الجنوب. فخرج إلى رحاب ما بعد المناطقية، سياسياً، ونضالياً. وهو ما انكب عليه في مجاميع علمه داخل الجامعة وخارجها، وصولاً إلى تمثيله لبنان في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وبعدها إلى محكمة العدل الدولية، قاضياً ورئيساً حيث انتخب لثلاث سنوات، وفي كلتيهما لم يكن نواف مرشح بلده ولم يحظ بدعم لبنان لهذا المنصب.
من يعرف الرجل، يوقن أنه يتعدى الجدل، ويتخطى كل تفاصيل البلاد التي تنتقل من تيه إلى تيه. يوم طرح لرئاسة الحكومة، خرج من يتهمه بالأمركة، وبأن اقتراح اسمه جاء أميركياً. غاب عن بال المتهِمين، بأن سلام كان قائد حملة الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الهيئة العامة للأمم المتحدة. خاض سلام يومها معركة استدعت هجوماً أميركياً عليه، ومحاولات لتطويقه ومطالبات للبنان بالضغط عليه أو إقالته. ونواف سلام، هو صاحب المبادرة لوقف إطلاق النار اثر حرب تموز في العام 2006، وكان أول من عمل على القرار 1701 والنقاط السبع، وهو في لحظة انقسام لبناني حاد على وقع الثورة السورية، وفي لحظة تهديد وجودي للوحدة الداخلية، كان قد ابتكر مصطلح النأي بالنفس.
يبقى نواف سلام، البيروتي العتيق، صاحب أصالة ثقافية وعراقة فكرية، هو كبيروت في ما تجمعه وتحتضنه، بخلاف ما يراد لها أن تكون تفريقية أو تقسيمية أو نابذة لإبن بلد أو لـ"غريب" لاذ بها. وهو الخارج من بيروته إلى رحاب اتساع الأفق، مفكراً برؤيويته للبنان في كتابه بين الأمس والغد. ومجدداً في أفكاره العربية والعروبية، التي تمزج ثقافة الشرق والغرب، وهو الذي يجالسه اثنان برفقة دائمة ورفقة الأدب، أمين معلوف وغسان سلامة، من أعلام لبنان في الخارج ومن أعلام الخارج على مسرح بلد صغير لا يقدّر أبناءه.
تجتمع في نواف سلام عوالم، تمتد من صلابة القانون الدولي، إلى مبدئية السياسة ومرونتها، وهو لا يغلق عالماً من الثقافة والأدب والفن. فهو المحاط دوماً بكتب كثيرة، وبقصاصات تاريخية لخرائط ورسومات ونصوص، تجعله يقيم في متحف يأبى أن يشيخ، دائم التجدد وسط صور لرواية الحرب والسلم لتولستوي، وخريطة لمكة والمدينة أيام الهجرة النبوية، وهو التجديدي في ثقافته لعروبة تنتمي لثقافة الاختيار، لا عروبة العاربين أو المستعربين، وهو الباحث الدائم عن حداثة لبنانية وعربية.
ذات ثورة هتفت جموع وجماهير، بأحلام وطموحات، وباسم نواف سلام طلباً لمجيئه رئيساً للحكومة، بقي الرجل على ثباته وثوابته، أبقى قدميه على الأرض ورأسه فوق كتفيه، بلا انبهار ولا انسحار. أصر على ممارسة عمله ومهامه حيث هو، ولا تزال أحلام لبنانية كثيرة تشخص إليه ونحوه. فمن حق اللبنانيين أن يحلموا. لكن نواف حلّق بعيداً رئيساً لمحكمة العدل الدولية، حيث اسمه يدوّي في أروقتها وفي أروقة العالم أجمع، والحلم أكبر في هتافات الكثيرين من الفلسطينيين، والعرب واللبنانيين، والسوريين، وحناجر من غياهب كثيرة، ستهتف باسم الرجل طلباً لعدالة لطالما كانت ضائعة، ولطالما ظلم الرجل في بلده لأن تلك العدالة غائبة أو مغيبة.
منير الربيع - المدن