أوراق الرّئاسة في عهدة "حزب الله" وفرنجيّة مرشحاً وحيداً بتفويض إيراني - سوري
كل المؤشرات في الملف الرئاسي اللبناني تدل على أن هناك مرشحاً وحيداً يدور حوله السجال هو سليمان فرنجية. تارة ترتفع أسهمه وتارة أخرى تنخفض، وفق مؤشر الاتصالات العربية والدولية حول لبنان، وما تطرحه باريس من مقايضة بانتخابه رئيساً وتكليف رئيس حكومة من المعارضة بضمانات محددة. وفرنجية هو مرشح "حزب الله" ومحوره المدعوم أيضاً من دمشق، فيما لم تتطرق الدول الخمس في اجتماعها بباريس في 6 شباط (فبراير) الماضي إلى أسماء المرشحين وبقي النقاش في حدود المواصفات. واللافت في الشأن الرئاسي انكفاء مرشحي المعارضة عن الساحة، فيما جلسات مجلس النواب لانتخاب الرئيس توقفت عند النسخة 11 من دون تحديد أي موعد لجلسة جديدة. لذا لا تزال حظوظ فرنجية في الصدارة مع إصرار "حزب الله" على التمسك به مرشحاً وحيداً، واعتباره أن انتخاب الرئيس لا يمكن أن يمر من دون تغطيته.
وعلى الرغم من الرفض المسيحي المستمر لانتخاب فرنجية، تواصل باريس مساعيها في هذا الشأن، وبالنسبة إليها لا يزال انتخابه ممكناً وليس مستحيلاً، في غياب مرشح آخر يحظى بدعم "حزب الله"، لذا تعمل على إقناع المكوّن السني للسير في هذا الخيار، وانتزاع موافقة سعودية للتغطية العربية. ولم تعلن باريس رسمياً التخلي عن المقايضة أو مشروعها، على الرغم من الجولات التي قامت بها السفيرة الفرنسية في بيروت آن غريو على القيادات المسيحية، واعتبارها أن ترشيح فرنجية هو أحد خيارات فرنسا للخروج من الأزمة. وعليه لا يبدو أنها بصدد طرح مقاربة جديدة، ولم يعد في إمكانها طرح مبادرات تتعارض مع وجهتها السياسية في المنطقة ولبنان وحساباتها اقتصادياً ومالياً، فهي تستنفد كل أوراقها، لذا لم تقدم غريو خلال لقاءاتها ما يتناقض مع ما أعلن خلال زيارة فرنجية الأخيرة لباريس.
وما يدعّم هذه الوجهة أن دول باريس لم تتبن اسم أي مرشح آخر، حتى الموفد القطري محمد الخليفي الذي زار لبنان أخيراً والمتوقع عودته إلى بيروت قريباً، لم يعلن تبني قطر لأي مرشح، وهو ما يعني بقاء فرنجية المدعوم من محور الممانعة مرشحاً للتفاوض على حل للأزمة اللبنانية. أما الاجتماع المرتقب لدول باريس الخمس، فسيكون جدول أعماله مختلفاً في ما يتعلق بالرئاسة اللبنانية والتسوية، لا سيما بعد الاتفاق السعودي - الإيراني وما طرأ من تحولات في المواقف السياسية حول ملفات المنطقة، ويتأثر أيضاً بالانفتاح العربي على سوريا وتطبيع العلاقات معها، ما سينعكس على النقاش في الملف اللبناني عامة.
بات الجميع ينتظرون تداعيات الاتفاق السعودي - الإيراني، لبنانياً، على الرغم من أنه لم يظهر أن هناك بحثاً حول لبنان، ولا ملامح لوجود مشروع معين للوصول إلى حل شامل أو حتى تسوية مرحلية تمكن من إنجاز الاستحقاقات. ويبدو أن ترحيل البحث في الملف اللبناني هو لتجنب الاصطدام الذي يمكن أن يؤثر على ملفات الحل في دول أخرى. وقد تبين من خلال وتيرة التطورات المتسارعة في العلاقات بين السعودية وإيران، أن لبنان ليس الملف الثاني بعد اليمن، بل تقدم الوضع السوري عليه، وهو أمر تمكن الإيرانيون من دفعه إلى الأمام في تطوير الانفتاح السعودي على دمشق من دون أن تكون السيطرة الإيرانية موضوعاً للبحث. وكان لافتاً في البيان الختامي السعودي والسوري لوزيري خارجية البلدين عدم الإشارة إلى تطبيق القرار 2254، الذي يتحدث عن انتقال سياسي للسلطة. وهذا يعني أنه في الاتفاق أن سوريا هي الملف الثاني لكنه مقابل اليمن. إلا أن للموقف السعودي اعتبارات أخرى تنطلق من السعي لتخفيف التوتر، وليس الانفتاح السياسي الكامل على دمشق.
إنجاز الاستحقاقات اللبنانية لا يكتمل من دون توافق دولي وعربي خصوصاً بين دول باريس الخمس، لكن المعضلة الأساسية تبقى في الموقف الإيراني الذي يعتبر لبنان ساحة نفوذ عبر قوة "حزب الله" ودوره الإقليمي، وبالتالي لا يتنازل بخلاف ما يجري في ملفات أخرى. والمشكلة أن الاختلاف في المقاربات يُظهر أن الملف اللبناني هو الأصعب، وهو ليس مشابهاً لليمن الذي يتقدم خطوات مهمة في التسوية انطلاقاً من الاتفاق السعودي - الإيراني. لكن الأمور لبنانياً تذهب لمصلحة قوى الممانعة، فـ"حزب الله" وحلفاؤه يروجون وفق مراهناتهم على أن السعودية لن تستمر بموجب الاتفاق على شروطها حول الرئاسة والتي لا تزال تعوّق انتخاب فرنجية، بل ستستجيب لهذه الوجهة انطلاقاً من تسوية شاملة، خصوصاً أن السعودية انفتحت على النظام في سوريا التي يطمح نظامها لاستعادة دوره، ولم تضع المعارضة ضمن حساباتها، فكيف في لبنان حيث تختل موازين القوى لمصلحة فائض قوة "محور المقاومة"؟
هذه التطورات بدأت تنعكس على لبنان، فتمسك "حزب الله" بفرنجية يهدف إلى إيصاله للرئاسة كمرشح وحيد، وكأن الانتخاب سيكون بمثابة تعيين بعد اختمار صفقة تذكر بتجربة انتخاب ميشال عون رئيساً في عام 2016، بالرغم من اختلاف الظروف لبنانياً وأيضاً عربياً ودولياً، حيث لم تحسم الولايات المتحدة الأميركية وجهتها، وإن كانت تدعو إلى انتخاب رئيس والشروع في الإصلاحات. لذا كان لافتاً تحرك مرشح الممانعة سليمان فرنجية الأخير في بكركي وكأنه يقدم برنامجه الرئاسي أمام البطريرك الماروني بشارة الراعي، إذ وجه رسائل "رئاسية" وضمانات حول الاستراتيجية الدفاعية وملف اللاجئين. وهذا يعني أنه لا يزال مرتاحاً لدعم باريس وتمسك "حزب الله" به، فضلاً عن دعم النظام السوري، وبالتالي يراهن على تغطية سعودية تشكل عاملاً أساسياً لعبوره إلى القصر الجمهوري.
وفي وقت لا تزال السعودية على موقفها الذي أبلغته للفرنسيين حول المقايضة وإصرارها على مواصفات معينة للرئيس من خارج الاصطفافات اللبنانية، إلا أن موقف الرياض لم يتحول إلى رافعة سياسية يمكن الارتكاز عليه، علماً أنها تصر في سياق عودة العلاقات مع سوريا على ضبط الحدود مع لبنان ووقف التهريب، وهو ما يطال "حزب الله" تحديداً. لكن ثمة من ينتظر الكلمة الأخيرة للولايات المتحدة الأميركية المشغولة بملفات أخرى، فأي حل في لبنان لن يكون بمعزل عن موافقة واشنطن، على الرغم من وتيرة التقدم في العلاقات الإيرانية - السعودية، إلا أن المخاوف بدأت تظهر من احتمال إنضاج وجهة عبر اختمار صفقة لا تمانع واشنطن فيها خيار فرنجية، ما دامت المعطيات تُظهر أن قوى الممانعة المدعومة إيرانياً تراهن على الوقت والفراغ والتعطيل لاصطفاف الجميع وراء فرنجية.
أسهم فرنجية ترتفع كمرشح للممانعة للوصول إلى الرئاسة. السبب أن "حزب الله" بات يمتلك من الأوراق ما يمكنه من فرضه كاسم وحيد بفعل التطورات التي حدثت في المنطقة، وأيضاً بقدرته على استثمار الفراغ لمصلحته. لذا يراهن الحزب على انفتاح عربي للتفاوض معه بوصفه الطرف القادر على تقديم ضمانات رئاسية، لكنها تندرج ضمن حساباته وما حققه من مكاسب داخلية في الهيمنة والتأثير الإقليمي في سوريا وغيرها. وبالنسبة إليه يتمتع بفائض قوة ولديه أوراق تمنحه دوراً أساسياً في الملف الرئاسي للبت به بدعم إيراني وبتفويض مفتوح بمعزل عن موقف دمشق، خصوصاً في غياب قوى قادرة على التأثير وفي ظل انهيار الدولة والفراغ الذي يهدد كل مقومات الحياة في لبنان.
تتدحرج الموانع التي تحول دون وصول مرشح "حزب الله" إلى الرئاسة، واحداً تلو الآخر. ويبدو أن فرض الأمر الواقع سيفكك الكتل المسيحية الرافضة لانتخاب فرنجية، فيما تواصل فرنسا مساعيها لإقناع السعودية بمقايضتها ودعم خيار ترشيح فرنجية. الصفقة باتت في مرحلتها الأخيرة، وإن كانت تحتاج إلى وقت لإنضاجها. لكن لبنان الدولة يبقى الخاسر الأكبر في كل الاحتمالات...
إبراهيم حيدر - النهار العربي