هل قرّر الحزب وراثة عرفات والأسد معاً؟
كتب جان عزيز في اساس ميديا:
في كتاب "تفكّك أوصال الدولة في لبنان"، لمؤلّفه النائب السابق والسفير الحالي فريد الياس الخازن، فصول مثيرة عن التحقيقات في حادثة عين الرمّانة، كما عن مقدّماتها، منذ إطلاق النار على معروف سعد في 26 شباط من العام نفسه 1975.
نقاط كثيرة دخلت المنطقة المظلمة من تاريخنا: من رتّب موقعة صيدا بمكوّناتها كافّة: شركة بروتيين وزجّ اسم كميل شمعون. وتظاهرة المحتجّين ووجود نائب صيدا السابق، مشروع شهيد جاهز للاستثمار…
ثمّ من كان في سيارة الفولزفاكن الأولى في عين الرمّانة ذاك الأحد المشؤوم؟ ومن أرسل الفيات المغطّاة اللوحات لتغطية هويّة الرصاصات الأولى؟
وأين اختفى ذلك الشرطي الشبح، الذي حوّل سير البوسطة نحو المقتلة؟
ألغاز وأسرار سقطت في الأتون المتفجّر مذّاك، على الرغم من دورها في التفجير، أو بسبب دورها هذا…
بعد نصف قرن ناقص عامين، أكملناه أمس، لم يعُد أحد يسأل.
اكتفينا بسرديات عامّة معمّمة. بسيطة تبسيطية.
ربّما لأنّ حربنا تلك لم تقع في ذلك النهار بالذات.
ففي قراءة استرجاعية اليوم، تبدو عوامل التفجير آنذاك كلّها معروفة ومفهومة. من الصراع الدولي إلى الاحتراب الإقليمي، انتهاء بأزمات نظام مولّد بذاته للأزمات.
في الأيام اللبنانية الأخيرة، بين محاولة فرض سليمان فرنجية رئيساً، وتغطية المحاولة بدخّان فلسطيني ضحل من سهل القلَيْلة، بدا الحزب كأنّه يفكّر في حسم السباق اللبناني المنطلق منذ نصف قرن
لكنّ الأكثر بروزاً في التدقيق أنّ بوسطة عين الرمّانة كانت قد انطلقت صوب هدفها، قبل تاريخها المدوّن رسمياً بأعوام.
كوفيّة عرفات السنّية وقبّعة الأسد العلويّة
حتى يمكن الجزم أنّ البوسطة كانت قد أقلعت فعليّاً، بُعيد هزيمة 1967.
يومها بدا أنّ عبد الناصر إلى أفول. وبدا أنّ تسويته اللبنانية إلى أفول معه:
الشهابية في منتصف عهدها الثاني تنازع. بعد سنة على "النكسة" تأكّد الأمر في نيابية جبل لبنان سنة 1968.
في تلك اللحظة، وبمعزل عن مختلف عوامل التفجير اللبناني، انطلق في بيروت سباق خفيّ، عنوانه من يرث عبد الناصر في بيروت؟ أي من يحتلّ مقعد الزعامة العربية هنا بالذات. في عاصمة عواصم العرب ومسرح اعتلالات أنظمتهم وصحافة متاعبهم وموائل معارضاتهم ومقاهي ثوراتهم وأرصفة انقلاباتهم؟
وكأنّ التاريخ يعشق التقاطعات المكثّفة، حين يعزم على حدث. فلم يحلّ خريف عام 1970، حتى كانت "ستّ الدنيا" على موعد رباعي: رحيل عبد الناصر عن دنيا العرب. ورحيل أبي عمّار عن الأردن صوب لبنان. وقبض حافظ الأسد على سلطة سوريا. ووصول سليمان فرنجية إلى رئاسة لبنان.
عندها صار السباق معلناً بشكلٍ سافر: من يخلف الهرم الرابع لبنانياً، يمدّ نفوذه من لبنان إلى حيث تشعّ العدوى اللبنانية.
المرشّحان الأبرزان في المنازلة: كوفيّة عرفات السنّية العروبية الأممية. وقبّعة الأسد العسكريتارية العلويّة، المموّهة بكلّ شعارات عفلق والأرسوزي وإخوانهما؟
سباق قسّم لبنان سريعاً. حتى لم يبقَ أحد خارجه. ثمّ تدحرج محطّاتٍ وتفجيراتٍ، إلى أن ربح الأسد المبارزة على مراحل، من خطاب 20 تموز 1976 حتى رحيل أبي عمّار الممرحل عن بيروت، ثمّ عن طرابلس، انتهاء بالاحتلال الكامل بعد 13 تشرين الأول 1990.
سباق سلطة ونفوذ ومشروع، كان أشبه بحرب مفتوحة بين معارك متقطّعة. لكنّ أداته كانت ثابتة: استهلاك لبنان كدولة ووطن ومجتمع وناس، حتى اندثارهم، عبر تجسيدات وتنويعات مختلفة من مفهوم الحرب الأهلية المبيدة لكلّ أهلها.
في قراءة استرجاعية اليوم، تبدو عوامل التفجير آنذاك كلّها معروفة ومفهومة. من الصراع الدولي إلى الاحتراب الإقليمي، انتهاء بأزمات نظام مولّد بذاته للأزمات
رحيل حافظ وإسرائيل
لم يتأخّر الزمن ليكرّر ذاته. عشرة أعوام فقط كانت كافية لإعادة المشهد واستعادة المسرح. غاب حافظ الأسد سنة 2000. في لحظة حبلى هي أيضاً بالمصادفات المتقاطعة:
انسحاب إسرائيلي قبل أسبوعين فقط. وتحفّز لبناني سيادي، من بكركي إلى المختارة وما بينهما، للخروج مجدّداً من السجن الكبير الذي تحدّث عنه كمال جنبلاط.
وتكتمل المصادفات بعد عام مع أحداث 11 أيلول، زلزال إقليمي عالمي جعل زعماء البزّات المرقّطة والنظّارات الشمسية في كلّ المحيط يعيشون على قلق يومي.
انطلق سباق جديد خفيّ كامن ومكتوم في بيروت، عنوانه: من يرث حافظ الأسد في زعامة "الشعبين في البلد الواحد"؟
بسرعة ظهر المتسابقون عند خطّ الانطلاق. ينتظرون طلقة البداية. بعض الغرب وبعض العرب كانوا في المقدّمة. إلى جانبهم طبعاً كلّ المتسابقين المحلّيين. نجل الفقيد وعائلته الصغيرة والكبيرة، ورفاق للراحل الكبير، رحلوا عنه، أو استعدّوا للرحيل…
بين هؤلاء كان ثمّة وجهان لبنانيان: رفيق الحريري وحسن نصرالله.
في كلامه القليل والمكثّف، كان الراحل مصطفى ناصر، الشاهد على لقاءات الرجلين، يروي لحظات استثنائية من مجريات ذلك السباق المحموم والمكتوم.
ذات ليلة طويلة، قال الحريري لنصرالله: لم يعُد هناك إلّا أنت وأنا. فلنشبك أيدينا معاً فنحكم كلّ ما حولنا…
هنا أيضاً كانت العوامل كثيرة ومستويات الحدث متشعّبة مركّبة ومعقّدة. لكن كما بدت بوسطة 13 نيسان آتية من تشييع عبد الناصر، كذلك بدا زلزال 14 شباط 2005 في بيروت تردّداً لمأتم حافظ الأسد.
سقط الحريري في سباق: من يملأ فراغ لبنان وسوريا وأبعد منهما ربّما. وكما سنة 1975، كذلك بعد ثلاثين سنة، كان مضمار السباق حروباً أهلية مذهبية، ودولية جيوستراتيجية. من الاغتيالات إلى تموز 2006 و7 أيار… ولمّا ينتهِ السباق بعد.