التوقيت الصيفي ... أُمّ المعارك
القرار بتأجيل الانتقال إلى التوقيت الصيفي حتى نهاية شهر رمضان المبارك وتعميم الفيديو الخاص بتلك « المأثُرة التشريعية والتنفيذية» لم يخرجا عن الطريقة المعتمدة في إدارة الشأن العام في لبنان. القرار يشبه صانعيه، إرتجال فاضح ولغة سوقية إفتقدت الحدّ الأدنى من لياقة التخاطب واحترام المواطنين، وتأكيد على عشائرية فوق دستورية فرضت نفسها على إستقلالية السلطات وتعاونها وعلى طريقة عمل المؤسسات.
القرار الذي لا زلنا عاجزين عن إكتناه جوهره والبحث عن الأسباب الموجبة لإتّخاذه صفة المعجّل، كان من المفترض أن يشكّل سبباً جامعاً لمواجهة عشوائية السلطة واستباحتها لأبسط حقوق الموطنين، لكنّه تحوّل الى مادةٍ لخطابٍ مقيتٍ توخى الرد على الإرتجال بابتذال وإسفاف وشحن طائفي، بما يؤكد الحاجة الوجودية لكلّ من الفريقين للآخر، عشوائية من هنا تقابلها طائفية من هناك وكأن أحدهما ينتج الآخر. اللبنانيون الذين ساءهم الهزال الذي عبّر عنه الفيديو المعمّم هم أنفسهم من بلغ بهم القرف مداه من الخطاب الطائفي المتفلت.
ما جرى هو الصورة النموذج لكلّ مظاهر الحوكمة السائدة التي تشاركها الفريقان المؤتلفان في الحكومات منذ عقود والمتقابلان اليوم على حديّ قرار تأجيل العمل بالتوقيت الصيفي. أليست المنهجية التي تفرّد بها الرئيسان بري وميقاتي في اتّخاذ قرار تأجيل العمل بالتوقيت الصيفي هي عينها التي تشاركها كل أركان السلطة في معالجة أزمتي الكهرباء والنفايات وفي التعيينات الإدارية، أو في التمنّع عن إجراء قطع حساب للموازنات السنوية؟ أليست هي التي اتّبعت على امتداد سنوات خلت في تقاسم التلزيمات دون الإمتثال لقانون لشراء العام وآخرها التلزيم بالتراضي لمحطة ركاب جديدة في مطار بيروت دون مناقصة عمومية، أو في تلزيم السدود الخالية من المياه؟ ألم تُدار أزمة كورونا بنفس الطريقة على المستوى الطبي كما على صعيد ابتزاز اللبنانيين المسافرين والعائدين في مطار بيروت؟ ألا يتعامل أهل السلطة كلهم مع صندوق النقد الدولي بأقصى درجات الصبيانية واللامسؤولية بالرغم مما بلغه لبنان من انهيار على كلّ المستويات؟ إنّ كلّ الممارسات التي طبّقت على اللبنانيين لم تكن سوى نتاجاً لزبائنية وفساد استشريا على حساب لبنان ولحساب مجموعة من اللصوص.
فساد ذات البيْن بين أركان السلطة الذي فجره قرار التوقيت الصيفي يفاقمه عجزهم المتمادي عن التوصل لإنتخاب رئيس للجمهورية يقع على تقاطع مصالحهم بما يؤمن استمرار إستئثارهم بكلّ شيء، كما درجت العادة التي أصبح تغييرها من المحال. تواجه مسألة انتخاب رئيس للجمهورية لدى هؤلاء معضلتيْن رئيسيتين، الأولى تتمثّل في اتّساع دائرة الزبائنية لدى كلّ منهم بما يجعل من العسير الإتّفاق على رئيس يؤمّن تقاسم المغانم بطريقة تناسب طموحات كلّ منهم. هذا ما يطلقون عليه في لغتهم المعتمدة في الترويج رئيس يحمي حقوق هذه الطائفة أو تلك أو رئيس لا يطعن المقاومة في ظهرها أو قادر على التواصل مع هذه الدولة أو تلك، أو ما يُطلق عليه في لغة الرفض رئيس تحدي أو رئيس يأتمر بالسفارات. أما المعضلة الثانية، فهي التبدّل الجذري في الإقليم لمقاربة لبنان ودوره، وهو ما جعل النظريات التسووية اللبنانية غير قابلة للتسويق خاصة وأنّ التجربة الإقليمية المتكرّرة مع لبنان ليست مشجعة وهو ما يجعل من المستحيل القبول بتكرارها مع العيّنة نفسها من السياسيين الذين يفتقدون أبسط مقوّمات الثقة.
يتأرجح الإستحقاق الرئاسي بين مرجعيتيْن، مرجعيّة اللقاء الخماسي في باريس والذي يتّجه فيه الطرف الفرنسي إلى التخلي عن سراب تسويق سليمان فرنجية أو أي شخصية أخرى مجهولة المعالم وملتبسة المواقف لصالح برنامج عمل يلتزمه أي مرشحٍ كشرطٍ لاكتساب الدعم الدولي والإقليمي ودون الدخول في لعبة الأسماء، بحيث تكون عملية الإختيار والإلتزام مسؤولية لبنانية. المرجعية الثانية، وهي الإتّفاق السعودي - الإيراني الذي أعلن عبره الطرفان إحترام سيادة الدول في المنطقة، وقد عبّر عنه وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان «بأنّ اللبنانيين بحاجة للإتّفاق فيما بينهم وليسوا بحاجة للإتّفاق السعودي - الإيراني»، كما عبّر عنه رئيس المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية كمال خرازي على طريقته لدى زيارته لبيروت بأنّ «ربط الأزمة اللبنانية بالإتّفاق السعودي - الإيراني ليس في محله».
وفيما يعني الموقفان السعودي والإيراني أنّ الرياض وطهران هما خارج ميزان القوى الذي سيؤدي الى انتخاب رئيس للجمهورية، يرتفع الإرتباك لدى القوى السياسية اللبنانية التي اعتادت تلزيم خياراتها الرئاسية أو إلقاء تبِعات خياراتها على إملاءات خارجية لا يمكن رفضها فيما تتلقى يومياً تحذيرات دولية من انفجار إجتماعي إقتصادي مرتقب لن يكون في مصلحتها. إنّ مقياس الإرتباك الذي يعيشه «دون كيشوتيو» السلطة الفاشلة أمام من تبقّى من جمهورها هو ما يحوّل مسألة خلاف على التوقيت إلى أمّ المعارك.
العميد الركن خالد حماده - اللواء