لماذا أحيَت فرنسا تفجير كتيبة المظلّيّين في بيروت؟
رسالة مفاجئة بالتوقيت والمضمون تسلّمها القضاء اللبناني من السلطات الفرنسية، تطلب فيها الأخيرة استجواب أشخاص تشتبه بتورّطهم في جريمة تفجير مقرّ كتيبة المظلّيّين الفرنسيين قرب مطار بيروت الدولي في العام 1983، وتشدّد على ضرورة “تزويدها بالنتائج لتبني على الشيء مقتضاه”.
“المذكّرة اللغز” وصلت قبل ساعات إلى النيابة العامة التمييزية، وهي تحمل توقيع مدعي عام باريس، الذي يطلب مساعدة لبنانية في إطار التحقيق الذي يجريه في التفجير الانتحاري الذي استهدف مقرّ كتيبة المظليين التابعة للجيش الفرنسي في بيروت بتاريخ 23 كانون الأول من العام 1983. ويكشف مصدر رسمي بارز لـ “هنا لبنان”، أن المذكّرة “سجّلت في دائرة النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات الذي لم يطّلع بعد على فحواها، وتضمنت اسمين يجب إخضاعهما للاستجواب هما يوسف خليل وسناء خليل، لتوفّر شبهات حول تورطهما مع آخرين بتدبير العملية الانتحارية التي استهدفت بشاحنة مفخخة مبنى الكتيبة الفرنسية التي كانت تعمل في إطار القوات المتعددة الجنسيات، وأسفرت عن مقتل 58 جندياً فرنسياً وتدمير المبنى بالكامل”.
في الشكل لا تعدّ الاستنابة الفرنسيّة سابقة، ولا خروجاً عن بنود معاهدة التعاون القضائي الموقّعة بين البلدين، لكنّها تنطوي على دلالات سياسية وربما أمنيّة في توقيت حسّاس للغاية، فهي تتقاطع مع الظروف المعقّدة التي يمرّ بها لبنان سياسياً عبر انسداد الأفق أمام انتخاب رئيسٍ للبلاد ينهي الشغور المستمرّ منذ خمسة أشهر، ويوقف مسار الانهيار المتسارع، كما أنها تترافق مع تعقيداتٍ تشهدها ملفات قضائية حساسة تتصدّرها جريمة تفجير مرفأ بيروت، والمضيّ بتقييد المحقق العدلي طارق البيطار المستمرّ منذ سنة ونيّف.
لا يمكن للعالم بأصول صياغة الاستنابات القضائية وتبادل المعلومات، إلّا أن يتوقف عند أبعاد الرسالة الفرنسية التي ستربك القضاء، ليس لأنّها أعادت الحياة إلى جريمة مضى عليها 40 عاماً فحسب، بل لـ “القطبة المخفيّة” الكامنة فيها، فالرسالة بحسب المصدر الرسمي “تشدد على ضرورة استدعاء شخصين مجهولي كامل الهوية، وغير معروفين من قبل القضاء اللبناني، أقلّه حتى الآن وقبل الشروع بإجراءات التحريات عنهما، كما أنها لم تحدد جنسيتهما ومدى مسؤوليتهما عن الجريمة المشار إليها”. ولا يخفي أن الرسالة “محرجة جدّاً وستفاقم الأزمات التي يعانيها القضاء اللبناني، فجريمة تفجير مقرّ كتيبة المظليين الفرنسيين سقطت بتقادم الزمن بالمفهوم الجنائي، ولم يعد جائزاً إعادة التحقيق فيها لأنّ أيًّا من الأطراف المعنية بها لم يحرّك تجاهها ساكناً في طيلة العقود الأربعة الماضية”. ويسأل “هل هي رسالة ضغط سياسية في ظلّ انسداد أفق الانتخابات الرئاسية؟ وإلى من توجّه فرنسا رسالتها المشفّرة عشية استضافتها مجدداً لاجتماعات الدول الخمس المعنية بالملفّ اللبناني؟”
طبعاً لم يكن تفجير الكتيبة الفرنسية حدثاً منفصلاً عن مخطط استهداف القوات المتعددة الجنسيات التي كانت موجودة في لبنان، بل تزامن مع التفجير الانتحاري الذي استهدف مقر قوات المارينز الأميركية في نفس المكان (على طريق المطار) وأدى إلى مقتل 241 جندياً أميركياً، وقد تبنّت جماعة أطلقت على نفسها “حركة الجهاد الإسلامي” العمليتين يومذاك، وقالت إنّ الهدف منهما “إخراج القوات المتعددة الجنسيات”، لكنّ القوات الأميركية حمّلت لاحقاً “حزب الله” مسؤولية العمليتين، واتهمت عماد مغنية بالتخطيط لهما وتنفيذهما، كما اعتبرت أن “جميع المشتبه بهم في التفجير المزدوج باتوا قادة في هذا الحزب”. ورغم أن القضاء اللبناني أصدر قراراً في أواخر تسعينيات القرن الماضي، أوقف فيه الملاحقة لـ “سقوط الجريمة بمرور الزمن، ومضي أكثر من 15 عاماً على وقوعها”، اعتبر مراقبون أن “القرار القضائي يومها صدر تحت تأثير النفوذ السوري الذي كان ممسكاً بمفاصل السلطة في لبنان بما فيها المؤسسة القضائية”.
قد يكون مصير المذكرة الفرنسية شبيهاً بالقرار الذي اتخذ بجريمة تفجير مقرّ “المارينز”، باعتبار أن لبنان لا يحتمل فتح ملفات الحرب الأهلية من جديد، التي قد تبدأ بهذا الملف وربما تمتد إلى حقبة خطف الرهائن الأجانب والسفراء ما يضع البلاد تحت وصاية قضائية جديدة. لكنّ المصدر إياه يربط بين هذا التطور و”المؤشرات التي برزت مؤخراً مع مشاركة فرنسا ودول أوروبية أخرى بالملفات المالية، ومن ثمّ الدخول مباشرة على ملفّ التحقيق بانفجار مرفأ بيروت، والتلميح إلى رغبة أوروبية بالمشاركة في التحقيق المرتبط باستهداف دوريات “اليونيفيل” العاملة في جنوب لبنان، وآخرها إطلاق النار على دورية تابعة للكتيبة الإيرلندية في بلدة العاقبية في جنوب لبنان، وقتل أحد جنودها”.
كلّ ذلك يطرح سؤالاً محورياً عمّا إذا كان لبنان دخل فعلاً مرحلة وصاية دولية جديدة أم لا؟
يوسف دياب - هنا لبنان