الساسة أنقذوا رؤوسهم وعلّقوا رأس المصارف على مقصلة الشعب
فجأة تحرك كل شيء صعودا. الدولار ساحقا بقايا الليرة وقابضيها، وقرارات قضائية، إستدعاءات واتهامات، ملتبسة في الشكل والمضمون، وأخبار مستغرَبة وبالغة الخطورة وافدة إعلامياً من الولايات المتحدة حول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، تتهمه بما لا طاقة له على حمله، إلى غليان في الشارع طال انتظاره، وإذ به يأتي مزمجرا على غير عهد اللبنانيين به، حاملا رسائل وتهديدات و"دواليب" نارية للمصارف، وممارسا ما لا ينفع في تحصيل الحقوق، ولا في استعادة المنهوب، بل يزيد تعميق الأزمة، ويكبّد المصارف التي استهدفتها الجموع الغاضبة في منطقة بدارو، مبالغ طائلة لإصلاح فروعها وصيانتها، بعد إحراق مداخلها وواجهاتها وتكسيرها وآلات الصراف الآلي فيها.
مَن يحرك مَن؟ ولِمَ اليوم؟ ماذا تغير حتى تنام الملفات القضائية للمصارف شهورا ثم تستيقظ فجأة، ويغطّ الشارع في سبات عميق، وصمت مريب، لينهض فجأة مهددا بإحراق مصارف لبنان وبيوت أصحابها ومديريها، وممتلكاتهم الخاصة والمصرفية، في مَشاهد لم يرَ اللبنانيون مثيلا لها أيام فوضى الحرب الأهلية، وسقوط الدولة، ويعِد منظمو الغضب الممنهج، باستمرار "تأديبهم" للقطاع المصرفي، محمّلينه وحده، وإن كان غير بريء كليا، مسؤولية ضياع ودائعهم وجنى أعمارهم، وسقوط الليرة وانهيار الاقتصاد؟
كل ذلك يحصل، وبعض السلطة، ان لم يكن شريكا في حراك الشارع، فهو حتما من محرضيه، وبأفضل الحالات الصامت والساكت الأكبر على توسع رقعة الإنهيار الاقتصادي والإجتماعي، ولا سمح الله الأمني، إرضاء لمصالحه الخاصة أو الحزبية، أو طموحاته السياسية، ولا يعير مصير الناس ولقمة عيشها أي اعتبار، أو اهتمام. وتتداخل هويات هؤلاء ما بين سياسيين ورجال اعمال في الداخل والخارج وأصحاب غايات وايديولوجيات وباحثين عن أدوار وبطولات وهمية من المجتمع المدني، تلتقي على إبراء ذمة السلطة السياسية وشيطنة المصارف فقط.
لكن أحدا من هؤلاء المسؤولين لا يعي أن "هزة بدارو" أمس في خطورتها وتبعاتها وتفلّتها من الضوابط الإحتجاجية المتعارف عليها لبنانيا، خصوصا على مقربة من أكبر ثكنات الجيش ومستشفاه العسكري، أخطر وأقسى على حياة اللبنانيين ومصيرهم من الهزات الجيولوجية وارتداداتها السلبية.
ماذا بعد الاعتداءات على المصارف؟ وهل من يسعى في الداخل أو الخارج الى خلق فوضى انطلاقا من حقوق #المودعين في المصارف؟ ومَن يتحمل مسؤولية ما يحصل من اعتداءات على المصارف؟ والى اين يمكن أن تذهب الامور؟ رئيس جمعية المودعين في لبنان حسن مغنية، حمّل مسؤولية ما يحصل في الشارع من هجمات واعتداءات على المصارف الى كل من المصارف ومصرف لبنان والاحزاب اللبنانية. وعزا توقيت التحركات الى أن "بعض الاطراف، داخلية كانت أم خارجية، لديها حسابات وأجندات معينة من مصلحتها أن تستغل الوضع المعيشي المتأزم ووصول الدولار الى مستويات قياسية لتأجيج الصراع والاوضاع في لبنان، ولكن كل ما يحصل من فوضى لا يطمئن وسينعكس سلبا على المواطن اللبناني ومعيشته والبلاد عموما"، لافتا الى أن "الفوضى لن تؤدي إلا الى فوضى اكبر، سيذهب ضحيتها المواطن العادي". وقال: "منذ اليوم الاول دعَونا الى حلول لقضية المودعين في المصارف، ولكن للأسف على مَن تقرأ مزاميرك يا داود"! مجددا تأكيده أن "ثمة أطرافا داخلية وخارجية يهمها خلق فوضى بغية التوصل الى تسوية في المستقبل القريب"، آملاً "ألّا يتورط البعض بفوضى أمنية، قد لا تحمد عقباها".
الى ذلك، أكدت مصادر أخرى من المودعين أن ثمة اتفاقا بين إحدى الجمعيات التي تمثل المودعين وأحد كبار رجال الاعمال في الخارج تمت ترجمته ميدانيا بحرق بعض فروع المصارف، محذرة من أن أعمالاً كهذه لا تمثل المودعين الذين يريدون "أكل العنب لا قتل الناطور". لكنها في المقابل أكدت أنه "اذا انعدمت السبل الرامية الى إقناع المصارف بإعادة أموال المودعين، فإن المودعين كافة لن يتهاونوا في محاسبة اصحاب المصارف، ولن يقف في طريقنا اي عائق". وعابت على جمعية المصارف "إهتمامها بالرد على قرارات القاضية غادة عون والتهم الموجهة إلى المصرفيين، فيما غاب عن اهتمام المصرفيين قدرة المودعين في ظل اقفال القطاع على تمويل فواتير الاستهلاك الأساسية والطبابة، في حين تستغل بعض المصارف غياب الرقابة وتشرع في إيقاف بطاقات دفع مصرفية، وإقفال حسابات، وتحويل حسابات من الدولار الى الليرة اللبنانية، وإبطال بوالص التأمين للتعليم والتقاعد، من دون العودة الى المودع وإعلامه مسبقا، في خطوة أساءت الى القطاع برمته وجعلته يتحمل جشع وسوء تصرف بعضه على قلّته، ووسعت الشرخ بين المودعين والمصارف عموما".
وذكرت مصادر في جمعية المصارف لـ"النهار" أن اعضاء الجمعية كانوا يتابعون باهتمام ما يجري من اعتداءات وتحركات أمام المصارف، من دون أن يتخذوا قرارا بعقد اجتماع طارىء أو حتى اصدار بيان يستنكر الاعتداءات أو يدينها. ولم تشأ الدخول في تفاصيل من يحرك الشارع، انطلاقا من غياب المعلومات لديها حيال الامر، خصوصا أنها ليست المرة الاولى التي تحصل فيها تحركات كهذه، في حين اشارت مصادر أخرى الى أن بعض التحركات عفوية فيما البعض الآخر مدروس بدقة من الخارج، معتبرة أن هذه المرحلة من الفوضى متوقعة الى أن "يقضي الله أمرا كان مفعولا".
أحد المصرفيين أكد لـ"النهار" أن ما يحصل من اعتداءات على المصارف "غير بريء ويهدف الى نشر الفوضى"، جازما بأن "ثمة مَن يحرك بعض الناطقين باسم المودعين من الخارج بغية الضغط على لبنان والمصارف للامتثال والرضوخ لمطالب خارجية"، كما أنه لا يستبعد ما يشاع عن تحريك بعض رجال الاعمال الكبار لجمعيات تتحدث باسم المودعين في لبنان.
وقال: "ثمة أمور أساسية غائبة في لبنان تمنع الانتظام المالي والاقتصادي، إذ لا مجلس نواب يشرّع، وثمة فراغ في رئاسة الجمهورية، فيما الحكومة لا تستطيع اتخاذ قرارات مصيرية، أما القضاء فمشرذم، وتاليا ليس هناك حد أدنى من النظام"، مشيرا الى أنه "لو تم اقرار قانون الكابيتال كونترول، وقانون آخر يقضي بأن يردّ المقترضون بالدولار قروضهم "فريش" دولار، لكان الوضع مختلفا حتما، ولكان في امكان المصارف رد أموال المودعين". وإذ لا ينفي أن القطاع المصرفي أخطأ، ولكن في المقابل لا يمكن تحميله كل "تخبيص" الدولة وسوء ادارتها والسرقة والهدر والتوظيف العشوائي والعجز وعدم وجود سياسة اقتصادية ومالية واضحة... "ففي الامر الكثير من المبالغة والتجني".
أما الحل برأيه فيكمن في أن يقوم كل المعنيين بواجباتهم: "المجلس النيابي بالتشريع، والحكومة بإجراءات تحدّ من الانهيار، أما القضاء فبإصدار أحكام تأخذ في الاعتبار وضع القطاع المصرفي عموما، خصوصا أنه وُضع تحت مقصلة الدولة التي لا ترد له الاموال ولا تعترف أساسا بالمشكلة".
المصرفي عينه جزم بأن ثمة خطة لتدمير ممنهج للقطاع المصرفي في لبنان، مذكرا بخطة حكومة حسان دياب التي تقضي بإعادة هيكلة القطاع المصرفي عبر تقليص عدد المصارف إلى خمسة لتوزيعها ربما على أمراء الطوائف.
سلوى بعلبكي - النهار