تناثر منظومة النيترات وأخواتها أم اندثار الوطن؟
يحق للقاضي اللبناني طارق البيطار أن يطالب بضمّه إلى موسوعة غينيس للأرقام القياسية متربعاً على سجل مرجعي تراكمي مكوّن من 44 دعوى في أقل من سنتين في محاولة لردّه عن الإستمرار في مهمة التحقيق بملف انفجار مرفأ بيروت، وهي سابقة في تاريخ القضاء.
فقد تقدَّم مؤخراً النائبان والوزيران السابقان علي حسن خليل، وغازي زعيتر من النيابة العامّة التمييزية والتفتيش القضائي بطلبي نقل دعوى “للارتياب المشروع بحياد المحقق العدلي”. وأيضاً، تقدّم خليل بشكوَيَين منفصلتين عن سابقاتهما ضد البيطار أمام النيابة العامة التمييزية والتفتيش القضائي.
من يراجع سيل التهم التي كالتها الدعاوى الأربع الجديدة المقدمة في يوم واحد للبيطار يعتقد أنها نسخت كل التهم المدرجة في قاموس الجنايات اللبناني وأبرزها الزعم بـ “إساءة استعمال السلطة، الإخلال بالواجبات الوظيفية، مخالفة القرارات القضائية، إثارة النعرات المذهبية والعنصرية، الحض على النزاع بين الطوائف، إرتكاب جرم اغتصاب السلطة القضائية، وانتحال صفة النائب العام التمييزي وصفة محقق عدلي غير مكفوفة يده” إضافة إلى المطالبة بتعيين “قاضٍ بديلٍ” عنه للاستمرار في التحقيق بانفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020.
تهمة “الإرتياب المشروع” معطوفة على المطالبة بتعيين “قاض بديل” رافقت مسار ملف التحقيق في إنفجار مرفأ بيروت منذ بدايته، إذ سبق أن أطاحت في 18 شباط 2021 بالقاضي فادي صوان الذي خلفه البيطار، وكانت تهمة ذلك “الإرتياب” بصوان أن منزله تضرر في انفجار المرفأ ما يجعله طرفاً في القضية التي يتولى التحقيق فيها ما يستدعي ردّه واستبداله!
وكرر النائبان الشيعيان خليل وزعيتر مع البيطار نفس السيناريو الذي اتّبعاه مع صوان، مضافاً إليه كيل تهم من أجواء صراعه مع النائب العام التمييزي غسان عويدات، وتأييد أهالي ضحايا إنفجار المرفأ له وهو ما يثير “ارتياب المتابع” عن دواعي النهج التصاعدي لموقفهما من أيّ قاضٍ تسند إليه مهمة التحقيق في إنفجار مرفأ بيروت، وهل يعكس موقفهما ارتياباً من أداء المحقق أم ارتياباً من مبدأ التحقيق؟
المسار التصاعدي لردّ ثاني قاضٍ يتولى التحقيق في انفجار مرفأ بيروت يدفع للارتياب أو الشك أو الظن أو التوجس من محاولة مفترضة للحؤول دون تمكّن البيطار، أو غيره، من إكمال التحقيق إلى نهايته وصولاً إلى إصدار “القرار الظني” أي رواية الانفجار وأسماء المتهمين وقرارات توقيفهم لمحاكمتهم بموجب ما ورد من اتهامات ومسارات من وجهة نظر المحقق العدلي.
فهل هناك توجّه “لقبع” البيطار “بسرعة” قبل إصدار قراره الظني خلال شهرين على الأكثر والذي يتوقع أن يكون في 500 صفحة متضمنة ما يتفق على تسميته برواية رحلة النيترات؟
وإذا صحّ التوجّس، يصحّ السؤال: لماذا لا يريدون القرار الظني؟
يجيب أحد الخبراء الأمنيين العرب: “لأنه يجيب عن سلسلة من التساؤلات ليس أقلّها تقرير مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي (إف بي آي) الذي ذكر أنّ ما انفجر في العنبر رقم 12 في العام 2020 هو خُمس (5/1) كمية النيترات التي وصلت إلى مرفأ بيروت قبل 7 سنوات، فأين ذهبت الأربعة أخماس؟”
وكان تقرير الـ “إف بي آي” الصادر في 7 تشرين الثاني 2020 أي بعد 3 أشهر من الإنفجار قد ذكر أن “كمية نيترات الأمونيوم التي انفجرت في المستودع رقم 12 تُقدر بحوالي 552 طناً مترياً”. وأشار إلى أن المستودع كان كبيراً بدرجة كافية لاستيعاب كامل الشحنة البالغة 2754 طناً، والتي كانت معبأة على شكل مجموعات وزن كلٍّ منها طن واحد”.
واعتبر التقرير أن الاعتقاد بأنّ الكمية “كانت موجودة بالكامل وقت الانفجار يتنافى مع المنطق”.
وكانت الكمية كاملة قد وصلت إلى لبنان في العام 2013 على متن سفينة مستأجرة من روسيا وبقيت على أرض مرفأ بيروت لخلافات قضائية حول رسوم رسوّها ونزاعات قانونية.
لم يتضمن تقرير “إف بي آي” أيّ تفسير لمصير أربعة أخماس شحنة النيترات التي لو كانت على أرض مرفأ بيروت وانفجرت لدمرت العاصمة وضواحيها بكاملها.
فأين اختفت الـ 80% من شحنة النيترات خلال السنوات السبع من وقت وصولها إلى وقت انفجارها في مرفأ بيروت؟
لا جواب حتى الآن عن هذا السؤال ولا إجابات عن أسئلة متفرعة منه يتوقع أن يكون المحقق العدلي قد طرحها على السلطات الأجنبية التي راسلها، ومن هذه الأسئلة، مثلاً لا حصراً: “هل تم رصد تفجيرات في أماكن أخرى لنفس النوع من شحنة النيترات التي انفجرت في بيروت، وهل كانت انفجاراتها سابقة لتاريخ إنفجار مرفأ بيروت؟”، “متى، وأين”؟.. هذه الأسئلة المفترضة تشكل، على ما يبدو، كوابيس لمن لديه مصلحة في عدم وصول التحقيق في تفجير مرفأ بيروت إلى نتيجة، والنتيجة الوحيدة لأي تحقيق، هي التقرير الظني الذي يصدر عن المحقق العدلي المكلف بالملف.
هل يتضمن تقرير البيطار الظني إجابات جادة عن أين ذهبت الـ 80% من النيترات وكيف ذهبت خارج روايات البصارة اللبنانية التي “تتنبأ” بأن الكمية ربما سُرقت أو قذفها الانفجار في الهواء فتناثرت في البحر….
السؤال هو: هل سيصدر تقرير البيطار الظني أم أن محاولة الحؤول دون صدوره سيكون لها تبرير سخيف من نسق أنّه سرق كما النيترات، أو سيكون له عصف أقوى من انفجار المرفأ يقذف عصابة النيترات في الهواء فتتناثر في البحر؟
في زمن ما بعد ارتدادات الحرب الروسية الأوكرانية أيهما أجدى للعالم وأنفع للبنانيين، تناثر منظومة النيترات وأخواتها أم اندثار الوطن؟
محمد سلام - هنا لبنان