طارق متري يعيد الاعتبار للرواية الحقيقيّة للقرار ١٧٠١ في كتابه الجديد
كتب رامي الريس في "النهار":
"كما في الإلقاء، كذلك في الكتابة. تشعر مع طارق متري أنك تستمع إلى رواية أو أنك تقرأ نصوصها حتى لو لم يكن الموضوع أدبيّاً أو روائيّاً بل يصب في الإطار السياسي المباشر. يطوّع الرجل صاحب الباع الطويل في المواقع السياسيّة والفكريّة والثقافيّة اللغة العربيّة التي يعترف بحبّه لها حتى ولو كان هذا الإعتراف خارج السياق الذي يكتب فيه، فهو يقتنص الفرصة للبوح بمكنوناته تجاه هذا التعبير، ويترجمه في كتاباته التي تعكس دفئاً وأدباً رفيعاً.
جديد الدكتور طارق متري كتاب بعنوان: "حرب إسرائيل على لبنان ٢٠٠٦: عن قصّة القرار ١٧٠١" الذي قد يرى البعض أنه جاء متأخراً ولكن ليس ثمة موعد زمني محدد للتأريخ أو المذكرات أو لتقديم رواية ما حول حقبة سياسيّة ما خصوصاً إذا كانت تلك الحقبة صعبة كالحرب العسكريّة الإسرائيليّة الصارية على لبنان سنة ٢٠٠٦.
شاءت الأقدار أن يكون الوزير متري يومذاك وزيراً للخارجيّة بالوكالة إضافة إلى توليه حقيبة الثقافة، وهي تتناسب مع معرفته الواسعة في القضايا الفكريّة والثقافيّة عموماً. ويمثّل مضمون الكتاب الذي يعيد سرد بعض الوقائع التي غلفها النسيان أو تلك التي شُوّهت بشكل منهجي من قبل أطراف سياسيّة إنقلبت تماماً على مواقفها خلال حرب الـ ٣٣ يوماً وذهبت بها إلى ضفة أخرى مناقضة بالمطلق لما انطوت عليه من حملات تخوين وصلت إلى حدود الاتهام بالعمالة للفريق اللبناني المفاوض وللحكومة اللبنانيّة برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة يومذاك.
نعم، على رغم مرور سنوات طويلة على تلك التجربة المرّة، يأتي هذا الكتاب ليعيد تصويب الوقائع والتذكير بسياقاتها الحقيقيّة في لحظات وقوعها بعيداً عن المغالاة أو التحوير أو التشويه المتعمّد. في هذا الإطار، يقول المؤلف: "(الكتاب) يرّد مضطراً، بصورة مباشرة أو مداورة بحسب الحاجة، على استثمار أنصاف الحقائق والافتراضات، وتحريف الكلام عن مواضعه، وتشويه المواقف، وتوسل كل ذلك في النزاع السياسي". (ص٢٤). ويستطرد في هذه الفكرة بشكل معبّر قائلاً: "من التسرّع بمكان، بل من التجنّي، الخلط بين مشاعر القلق أو المخاوف وبين خدمة مصالح إسرائيل أو العمالة لها". (ص٣٠).
يتحدّث الوزير متري في مدخل الكتاب عن "محدوديّة إحترام قرار مجلس الأمن رقم ١٧٠١". وإذا كانت ثمّة مشكلات جوهريّة تعتري المعايير المزدوجة في السياسات الدوليّة قياساً إلى مصالح الدول وتقاطعاتها المعقدة؛ إلا أن ذلك لا يلغي أن القرار وضع حداً "للأعمال العدائيّة" ولو أن المأمول كان يتمحور حول "وقف إطلاق النار". وهذا المؤقت أصبح دائماً.
لم يغب عن بال وزير الخارجيّة، رغم جحيم الحرب الإسرائيليّة القذرة على لبنان، الإهتمام بكل التفاصيل التي يُعنى بها من سيكون تحت الأضواء ممثلاً لبلدٍ منكوب، ويروي في الفصل الثاني بعنوان: "مفاوضات بيروت ودبلوماسيّة نيويورك" (ص٧٩) منها مثلاً الاستعداد المسبق لعدم الوقوع في الأفخاخ التي غالباً تنصبها الوفود الإسرائيليّة للوفود العربيّة المقاطعة لها كمصافحات فجائيّة أو إلتقاط صور عفويّة تظهر تشاوراً أو تطبيعاً أو محادثات ثنائيّة مثلاً، أو المشاركة المكثفة في أكبر عدد ممكن من المقابلات الإعلاميّة لإحداث القليل من التوازن مع الحضور الإسرائيلي الطاغي على وسائل الإعلام الغربيّة، أو حتى تحديد اللغة المثلى لمخاطبة مجلس الأمن في ظروف كهذه وما إذا كانت العربيّة أو الإنكليزيّة وسوى ذلك من التفاصيل.
في المحصلة، لا يمكن التنكر لأهميّة هذا الكتاب لأنه محصّن بالأمانة العمليّة لمؤلفه الذي كتب: "تقتضي النزاهة الفكريّة التنبّه إلى كل ميل نحو القبض، بصورة واعية أو نصف واعية، على أعناق الواقع حتى تُلوى". (ص٢٤). إنه يعكس الالتزام بالحقيقة ومقاربتها بأعلى درجات الدقة والمسؤوليّة. وإذا كان هذا شأن المؤلف في الكتاب، فلأنه جاء كتظهير لتلك التجربة المحفوفة بالمخاطر وقد وصفها متري بالقول: "حاذرتُ الإنزلاق إلى ممارسة العمل الدبلوماسي على وقع التناقضات اللبنانيّة، كبيرها وصغيرها" (ص١٠٣). وكان أشار عن الفارق بين مخاطبة مجلس الأمن والخطابة أمام "القبضات المرفوعة" (ص٩٥). إنها قماشة رجال الدولة.
في ختام الكتاب الذي أهداه بالمناسبة إلى رئيس إتحاد بلديات صور الراحل عبد المحسن الحسيني ("الخال")، قال الوزير متري: "الحروب كرّ وفرّ، واعتداءات ومقاومة، والديبلوماسيّة تساهم في اجتنابها مرة وفي وضع حد لها مرة أخرى. لا أكثر ولا أقل" (ص١٧٨). ولكن هل استخلصنا الدروس والعبر؟
ـــــــــــــــــ
متري، طارق. "حرب إسرائيل على لبنان ٢٠٠٦: عن قصّة القرار ١٧٠١". بيروت. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الطبعة الأولى. ٢٠٢٢.