عون والطائف
غادر الرئيس ميشال عون قصر بعبدا. رمزيّة الانتقال من المقر الرئاسي قبل انتهاء الولاية بعد توقيع مرسوم اعتبار الحكومة مستقيلة، وإتهامات طالت المجلس الأعلى للقضاء وحاكم مصرف لبنان ورئيسَي مجلس النواب والحكومة، هي أكثر من رسالة أراد من خلالها عون الإيحاء أنّ الرئاسة لا تكون إلا حيث يكون، وهي قد خرجت معه ليستكمل بها من مقرّ اقامته في الرابية المواجهة السياسية مع اتّفاق الطائف الذي أخرجه من بعبدا عام 1990.
بين عون واتّفاق الطائف عداوة لا تستكين وثأريّة لا تهدأ. لم يتوقف الرئيس المنتهية ولايته يوماً عن ابتكار أساليب شتّى لاختراق الدستور وتكريس أعراف هجينة في ممارسة التسلط على المؤسسات، ساعده في ذلك تحالفه مع حزب الله الذي رعى انكفاء المجلس النيابي عن الإطلاع بدوره في حماية الحكومات أو في إسقاطها، والإكتفاء بمراقبة اعتداءات رئيس الجمهورية عليها وعلى رؤسائها ومراسيمها. اعتمد عون مساريْن متوازيين للنيل من إتّفاق الطائف:
الأول، تعطيل إنتاج السلطة وذلك بوضع العراقيل أمام تشكيل الحكومات بدءاً بتهميش الدعوة للإستشارات النيابية الملزمة، مروراً بوضع الشروط على من تسميه الأكثرية النيابية قبل التكليف وإنتهاءً بشروط تعجيزية في تسميّة الوزراء، إن لجهة العدد أو التمسّك بالحقائب. مارس عون خلافاً للدستور أوتوقراطية مستبدّة وصلت به إلى اعتبار توقيعه على مراسيم التكليف هو مصدر الشرعية الدستورية لخيار الأكثرية النيابية، وتوقيعه على مراسيم تأليف الحكومات هو المعبر الإلزامي لمنح الحكومات ثقة المجلس النيابي. ناهيك بالإمتناع عن توقيع المراسيم وعدم التقيّد بمهل إعادة النظر بها أو بإصرار مجلس الوزراء عليها.
الثاني، إفشال متعمد لعمل الحكومات عن طريق التدخل في جدول أعمالها خلافاً للدستور، وإعاقة آليات اتّخاذ القرارات أو الإلتفاف على تنفيذها تحت مسميّات الإجماع الحكومي والميثاقية، مما جعل رئيس الحكومة الحلقة الأضعف في دائرة إتّخاذ القرار وألقى عليه أعباء البحث الدائم عن توافقات حكومية ضمن فريق عمله الحكومي للحفاظ على استدامة العمل. هذا في الوقت الذي أناط الدستور بمجلس الوزراء السلطة الإجرائية بما فيها وضع السياسات العامة والإشراف على عمل أجهزة الدولة بما في ذلك المؤسسات الأمنية والمدنية والعسكرية (المادة 64 من الدستور) وإقالة الوزراء بمرسوم يُتّخذ بأكثرية الثلثيْن (المادة 69)، كما ونصّ الدستور على مسؤولية رئيس مجلس الوزراء في تنفيذ السياسات العامة وتمثيل الحكومة والتكلم بإسمها (المادة 65 من الدستور).
إختار عون التصويب الدائم على موقع رئاسة الحكومة كممر إلزامي لإثبات فشل الطائف كنظام سياسي، وللتصويب على المرجعيّة العربية للطائف. ست سنوات لم تكن كافية للنيْل من اتّفاق الطائف، تنكّر خلالها عون لقرارات «مؤتمر سيدر الذي عُقد في إبريل 2018 ودعى الى إصلاحات هيكلية في الإدارة ولا سيما قطاع الكهرباء، وتشكيل الهيئات الناظمة والنأي بلبنان عن الصراعات الإقليمية لقاء دعم لبنان للخروج من أزماته الإقتصادية والسياسية. كذلك تنكّر الرئيس عون لتعهداته بمناقشة وإقرار الاستراتيجية الدفاعية بعد الإنتخابات النيابية في أيار 2018 عقب مؤتمر روما الذي عُقد في آذار 2018 لدعم الأجهزة الأمنية والعسكرية وتأكيد إلتزام لبنان بالقرارات الدولية. إصرار عون وحليفه حزب الله على تشكيل حكومات وحدة وطنية أدى الى تحويل الإدارات الى مرتع للمحاصصة والفساد المالي والسياسي الذي ما لبث أن توسّع ليشمل الأجهزة الرقابية والقضاء وصولاً الى انفجار أزمة إقتصادية وإجتماعية .
أما المواجهة مع الحاضنة العربية للطائف فكانت عبر عمل دؤوب وهادف تمثّل بتماهي عون مع خطاب صدامي اعتمده حزب الله مع الدول العربية خلافاً لتوجّهات الحكومات اللبنانية وإرادة اللبنانيين، وعبر إرتكابات شرّعت الحدود لأنشطة غير مشروعة وجعلت لبنان مصدر تهديد حقيقي لمصر والأردن ودول الخليج العربي وأدخلته في عزلة قاتلة عن عمقه العربي.
مضى الرئيس السابق قُبيل انتهاء ولايته الى مقرّه الجديد مهدداً ومتوعداً باستكمال قتال طواحين الهواء، بعد أن أدى قسطه في تعطيل الحياة الوطنية بكلّ جوانبها. يُدرك الرئيس السابق أنّ ست سنوات من الإستباحة دخلت خلالها أشباح الجوع والتسوّل والهجرة الى كلّ منزل في لبنان لم تكن كافية لإقناع اللبنانيين بالتخلي عن فكرة لبنان التعدّدية والعيش المشترك، ولم تكن كافية لتحفيز الخارج على التدخّل وتغيير المعادلة السياسية القائمة.
لن يألو الرئيس السابق جهداً للمضي في صراعه مع لبنان العربي وقد توفّر الشعبوية التي ستحيط بالمقر الجديد المزيد من الأفكار للذهاب الى مغامرة جديدة وغير محسوبة وربما أبعد مما أتاحه القصر الجمهوري في بعبدا.
العميد الركن خالد حماده - اللواء