قدر غزة وقدر لبنان
كتب العميد الركن خالد حماده في "اللواء":
نجحت الوساطة المصرية مرة جديدة في التوصّل الى هدنة لوقف إطلاق النار في غزة بين حركة الجهاد الإسلامي وإسرائيل. الشروط المعلنة من قِبل حركة الجهاد لجهة إطلاق المعتقلين بسام السعدي وخليل عواودة، أو ما اعتبرته إسرائيل موجباً لـ»ضربة إستباقية» كلها لا ترقى إلى مستوى الأسباب المبرّرة لجولة العنف والتدمير التي ابتدأت بقتل القائد في الجهاد تيسير الجعبري في مدينة غزة، واستمرت ثلاثة أيام في القطاع المحاصر تحمّل خلالها الشعب الفلسطيني ما تحمّل وأضافت الى ظروفه المعيشية مزيداً من التعقيد واليأس.
الهدنة التي أُعلنت لن تختلف هشاشةً عن سابقاتها، فشروط انهيارها والعودة الى جولات جديدة من العنف قائمة وماثلة في المشهد، وهذا مردّه ليس لإعلان إسرائيل عدم الإلتزام بإطلاق الأسيريْن، بل هي محكومة بالإلزامات التي تفرضها جغرافيا القطاع داخل فلسطين المحتلّة. أزمة العمق الاستراتيجي لإسرائيل التي تقع عاصمتها وجزء من بنيّتها التحتيّة في مدى الصواريخ التقليدية للجهاد، وتنتشر مستوطناتها على تخوم القطاع ضمن ما يُعرف بغلاف غزة، بالإضافة إلى واقع الإختراق الإيراني للساحة الفلسطينية لا سيما عبر حركة الجهاد، يجعلان من العنف طريقة وحيدة لتبادل الرسائل بين طهران وتل أبيب ويجعلان من الشعب الفلسطيني وقوداً لها حتى إشعار آخر.
إنّ استقبال أمين عام حركة الجهاد زياد النخالة من قِبل كلّ من حسين سلامة قائد الحرس الثوري والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بالتزامن مع العمليات العسكرية في غزة، يؤكّد المرجعية الإيرانية لأنشطة الجهاد في غزة. بالمقابل فإنّ نأي حركة
حماس ـــ التي تمسك السلطة في القطاع وتدير شؤونه ـــ عن المشاركة في العمليات العسكرية بالرغم من قدراتها وإمكاناتها، يؤكّد عجز طهران عن جعل الحركة بما تمثّل جزءاً من هذه المغامرة، هذا ما أسقط الطابع الفلسطيني بالمعنى الوطني الشامل لما جرى في غزة، وجعل الجانب الإنساني متقدّماً في استنهاض المبادرة المصرية الحاضرة دائماً وليس أي معطى آخر أمني أو سياسي.
كذلك فإنّ السرعة القياسية في التوصّل لوقف إطلاق النار وهشاشة الشروط المرفوعة التي مرت دون شك عبر طهران، لا يمكن أن تُقرأ إلا من قبيل تمسّك طهران بإظهار دورها في القرار الفلسطيني بالرغم من المأزق المستجدّ الذي تواجهه في الإحتفاظ بدورها في أكثر من دولة عربية.
تتشابه غزة مع لبنان وتتكاملان في تشكيل ساحتيّ نفوذ لإيران مطلتيّن مباشرة على إسرائيل من بوابة الأمن الإقليمي والصراع في الشرق الأوسط، وهذا ما يقدّم لطهران منصتيّن وازنتين تخاطب من خلالهما الولايات المتّحدة الأميركية والغرب وتبعث عبرهما برسائل لتحسين شروطها في مسار تصاعدي تفترضه لنفسها أو في ملفات متعثرة أُوكلت إليها .
وبالإضافة إلى ما يقدّمه التماس مع إسرائيل من حضور عبر حزب الله، فقد وفّر المشهد اللبناني لطهران العديد من الفرص والرهانات التي جعلتها على تماسٍ دائم وتقاطع مصالح مع القوى الإقليمية والدولية، فالإمتداد مع سوريا أضحى بعد العام 2011 هو العمق الاستراتيجي لإيران، حيث أتاحت الحرب الدائرة هناك تشابكاً مع جملة من اللاعبين الإقليميين لا سيما تركيا ودول الخليج ومع روسيا وأحياناً مع الصين وكذلك مع القضايا الإقليمية ولاسيما مسألة الأقليات.
لقد أضافت مسألة المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل لترسيم الحدود البحرية في لبنان عبر وسيط أميركي أكثر من ورقة إضافية لطهران لتأكيد حضورها، سواء عبر تلقف حزب الله للمفاوضات وإظهار وزنه وتأثيره في دفع الدولة للسير بها، أو عبر استعراض قوّته وتحديد المهل المتاحة للإنتهاء من الترسيم تحت طائلة تعطيل عمليات الإستخراج والتطوير التي تقوم بها إسرائيل في حقل كاريش.
تستخدم طهران الساحة اللبنانية وكأنها الإحتياط العملياتي بل القوة الضاربة التي يمكن التهديد بها للرد على ما يمكن أن تتعرّض له من مخاطر، وهي بذلك تضع لبنان على طاولة التفاوض النووي في فيينا، وقد أضافت غزة عبر حركة الجهاد الى قائمة القوى الجاهزة للإستخدام في التفاوض مع الولايات المتّحدة. هذا ما أكّده مؤخراً قائد الحرس الثوري الإيراني في اللقاء الذي جمعه بأمين حركة الجهاد حين اعتبر في عبارة واحدة: «أنّه لا يمكن هزيمة المقاومة الفلسطينية في غزة أو المقاومة في لبنان» وهذا ما يُمكن إضافته الى ما صدر سابقاً عن وزير الدفاع الإيراني الذي هدد باستعمال صواريخ حزب الله كجزء من سلاح الردع الإيراني على أي هجوم إسرائيلي على المنشآت النووية الإيرانية.
ما تعيشه غزة اليوم هو نتاج الإنقسام الفلسطيني حول تشكيل السلطة في العام ٢٠٠٧ ونشوء سلطتيْن سياسيتين، والذي أدّى الى تفاقم الإنقسام بحيث لم يعدْ للقطاع من دور سوى المشاركة في جولات داميّة تعدّها إسرائيل وتستثمرها طهران لتدمير القطاع بعيداً عن أي جهد وطني فلسطيني حقيقي.
فهل تذهب حدود الإستخدام الإيراني للبنان الى ما بعد غزة ؟ وهل يؤدّي الإنقسام حول السلطة في لبنان الى التماهي بين قدر غزة وقدر لبنان؟