ذكرى الرابع من آب: الدولة المؤجلة!
كتب رامي الريّس في "نداء الوطن": مع حلول الذكرى الثانية لتفجير مرفأ بيروت، يحق لأهالي الشهداء أن يغضبوا وأن يعبّروا بكل أساليب السخط الممكنة عما آلت إليه التحقيقات القضائيّة في هذا الملف الذي يرقى إلى مستوى المأساة الوطنيّة الكبرى. وزاد انهيار أقسام جديدة من الأهراءات التاريخيّة ليفاقم مشاعر الحزن واليأس.
إن تعطيل القضاء ومنعه من القيام بواجباته الكاملة في التحقيقات وإصدار الأحكام إنما يصبّ في إطار السياسة المحكمة التي انتهجتها بعض الأطراف السياسيّة لإضعاف كل المؤسسّات الرسميّة، ومنها - إن لم يكن في طليعتها - المؤسسة القضائيّة التي تعاني بدورها مشاكل كبيرة بعضها يتصل بالأداء «الفولكلوري» لبعض رموزها والبعض الآخر يرتكز إلى إشكاليّات أكثر عمقاً ودراماتيكيّة.
لا شك أن المجلس العدلي، كمحكمة إستثنائيّة بدرجة واحدة لا تقبل قراراتها الإستئناف أو التمييز، هو إطار قضائي يتطلب إعادة نظر، تماماً مثل المحاكم العسكريّة التي توسعت مهامها بما يتخطى صلاحيّاتها الأساسيّة. هذه مسألة تتطلب مقاربة جديدة تكون مستوحاة من الأنظمة الديمقراطيّة التي تحترم مبدأ فصل السلطات وتطبقه، وفي مقدمه إستقلاليّة السلطة القضائيّة.
لقد وصلت التحقيقات في قضيّة إنفجار المرفأ إلى مراحل محددة من البحث والتنقيب عن الحقيقة التي ينتظرها اللبنانيون جميعاً. إلا أنها، بطبيعة الحال، لم تصل إلى خواتيمها النهائيّة التي يمكن من خلال توفير الفهم الكامل للرأي العام ولعائلات الضحايا الأبرياء عمّا حصل فعلاً، وعمّن هو مسؤول فعلاً عن حصول ما حصل.
الخلاصة الأساسيّة، سواءً أكان في ملف مرفأ بيروت أم في أي ملف قضائي آخر، ان منع قيام السلطة القضائيّة المستقلة في لبنان يعني عمليّاً تأخير مشروع قيام الدولة إلى أجل غير مسمّى. لا يمكن إنتظار قيام الدولة من دون إقرار القوانين والتشريعات التي تتيح قيام سلطة قضائيّة مستقلة.
السلطة القضائيّة المستقلة هي المؤسسة التي لا تتأثر قراراتها بأية اعتبارات خارج دائرة الدستور والقوانين المرعيّة الإجراء، كما لا تتأثر قراراتها بأية تدخلات سياسيّة مباشرة أم غير مباشرة. والخطوة الأولى المطلوبة في هذا الاطار هي «تحرير» الجسم القضائي من عقدة المناقلات والتعيينات والتشكيلات والترفيعات كي لا يبقى القضاة بمثابة رهائن لدى السلطة السياسيّة بمختلف رموزها وقواها وتلاوينها.
أن يمتنع رئيس الجمهوريّة، على سبيل المثال، عن توقيع مرسوم التشكيلات القضائيّة لسنواتٍ طويلة، وهو المؤتمن على حماية الدستور وتطبيق القوانين؛ إنما يعكس جانباً أساسيّاً من الأساليب المعتمدة مع القضاء. وأن يعجز التفتيش القضائي عن تطبيق الأنظمة بحق القضاة المخالفين مسلكيّاً وقانونيّاً مفسحاً المجال أمام مواصلة البعض منهم خطواتٍ لا تصب في حقيقة الأمر في صلب العمل القضائي بقدر ما تعكس خطواتٍ كيديّة إنتقاميّة لا تمت إلى سلوكيّات وأصول العمل القضائي الملتزم والرصين بصلة؛ فذلك له تداعياته أيضاً.
أمام لبنان الكثير من المشاكل المتراكمة في مختلف المجالات والقطاعات لدرجة أن البعض منها يبدو وكأنه يستعصي على الحل. ولكن، على الرغم من فداحة المشاكل وعمقها وتعقيداتها؛ إلا أن المسألة القضائيّة تبدو الأكثر أهميّة لأن إصلاحها يترك آثاره على مختلف المجالات الأخرى، ويتيح لسائر الملفات أن تنتظم تدريجيّاً بما يتلاءم مع القوانين والتشريعات السارية المفعول.
القضاء أيضاً مدعوٌ لأن يترّفع عن السلوكيّات التي من شأنها أن تؤثر على إستقلاليته وعلى سمعته وعلى هيبته. القضاء، كما الأمن، مبني في جانب كبير منه على الهيبة والوقار. هاتان الصفتان متى ذهبتا نحو التداعي، فإن الواقع القضائي من حيث تركيبته وفعاليته، ومن حيث موقعه الوطني يصبح في خطر شديد، وهو خطر السقوط. فحذار من الوصول إلى هناك!