زمن الانتخابات الرئاسية بدأ: تكرار تجربة عون يمزّق لبنان
كتب منير الربيع في "المدن":
تظهر بلادة لبنانية في مقاربة الاستحقاقات المقبلة. الاستعصاء في تقديم طروحات جديدة، يعيد انتاج آلية التفكير نفسها إزاء استحقاق انتخاب رئيس للجمهورية. تتعامل غالبية اللبنانيين مع الاستحقاق كتعاملها السابق معه، وكأنما لا شيء تغيّر. علمًا أن اختلافات كثيرة قائمة ومؤثرة في أي تسوية مستقبلية: فليست القاعدة هي وصول مرشح حزب الله إلى سدة الرئاسة، ولا قاعدة فرض مرشح مواجهة.
ضحالة سياسية واقتصادية: دخل لبنان في مدار الانتخابات الرئاسية ولقاءاتها، من بينها اللقاء بين جبران باسيل وفريد الخازن، الذي وضعه البعض في هذه الخانة، تمهيدًا للقاء باسيل وسليمان فرنجية. ويحاول اللبنانيون حصر أسماء المرشحين، كما كانت الحال سابقًا، رغم أن مؤشرات كثيرة تفيد أن المسألة لن تكون بهذه البساطة والسهولة، إلا إذا كان المراد تمديد أمد الأزمة.
لا يمكن دولةً تشهد انهيارًا اقتصاديًا عاصفًا، وتتعطل قطاعاتها ومرافقها كافة، ويُضرِب موظفوها مطالببين بحقوقهم، أن تبقى وتستمر وفق صيغتها السياسية والإدارية المتبعة ونظامها القائم. فالانهيارات الاقتصادية ترافقها تغيرات سياسية كبرى، إما على وقع موجات كبيرة من الاحتجاج الشعبي، وإما نتيجة فرض توازنات سياسية جديدة برعاية إقليمية ودولية.
هذه الخلاصة تدفع كثيرين إلى تأكيد أن موت لبنان اقتصاديًا، يعني موتًا للصيغة ولاتفاق الطائف، ويفرض متغيرات غير ملموسة ولا معروفة حتى الآن. وثمة مؤشرات تفيد أن استمرار الانهيار والتداعي سيتزايد في الأشهر المقبلة، لا سيما بعد العودة إلى الواقع، في نهاية موجة تدفق المغتربين وضخهم دولاراتهم في الأسواق.
استحالات وحلول: حسب هذه القراءات لا يمكن للأمور أن تستمر على حالها، ولا على هذه الوتيرة. وهناك من يتوقع أن يكون لبنان أمام احتمالين: انفجار شعبي واجتماعي كبير يتخطى ما حصل في 17 تشرين، ولن تكون نتائجه وتداعياته معروفة. وإما وصول الانهيارات والصراع السياسي الذي تشارك فيه محاور وجهات متعارضة، إلى حدود صراع على الهوية يؤدي إلى نزاع عسكري داخلي، أو إلى حرب خارجية، يفرضان وقائع جديدة.
لكن هناك استبعاد للوجهتين، لأن أحدًا لا يريدهما لا في الداخل ولا في الخارج. لذا سيشتد الصراع الداخلي على وقع مطالبات متعددة: إما الذهاب إلى الفيدرالية أو التقسيم، وإما فرض أمر واقع معين، فتكون الدولة مسيطرة في مناطق، وقوى سواها مسيطرة في مناطق أخرى. وهنا ثمة جهات لبنانية وغير لبنانية تنشط في واشنطن وتعمل مع أعضاء في الكونغرس على تقديم مثل هذه المقترحات: إقامة منطقة خاضعة للجيش والدولة منفصلة عن المنطقة التي يسيطر عليها حزب الله.
تتزايد مثل هذه النقاشات وتتوسع في المرحلة المقبلة. وقد تبدأ بالبروز أكثر على وقع مناقشة التقارير الخاصة بلبنان في مجلس الأمن الدولي الشهر المقبل، وعلى أبواب التمديد مجددًا لقوات اليونيفيل.
حزب الله وفرنجية: حزب الله يبحث دومًا عن تسوية تسمح له بالاستمرار في مشروعه. فهو يلعب دورًا أساسيًا في تسمية الرئيس واختياره، من دون أن يقدّم أي تنازلات تتعلق بحساباته ومشروعه. وهذا ما فعله لانتخاب ميشال عون رئيسًا للجمهورية، عندما أصر على تبني ترشيحه ودعمه، حتى توفرت ظروف دولية وإقليمية وداخلية أتاحت لعون الوصول إلى قصر بعبدا. وكان ذلك نتاج تسوية داخلية مع تيار المستقبل والقوات اللبنانية، وخارجية بين الإيرانيين والأميركيين والفرنسيين، أتاحت لهذا المسار أن يبلغ خواتيمه الراهنة.
هنا لا يمكن اعتبار أن ما جرى مع عون يمكن أن يجري مع فرنجية، في ظل الظروف القائمة حاليًا. ففرنجية يظهر وكأنه مرشح مواجهة وليس مرشح تسوية، إلا إذا تكررت الظروف التي أدت إلى انتخاب عون.
تسوية أو استنزاف مستمر: النظر إلى المشهد العام يظهر أن ثمة قوى أساسية تشارك في صوغ هذه التسوية، وهي لا تقتصر على الفرنسيين والأميركيين والإيرانيين، إذ لا بد من أخذ موقف دول الخليج في الاعتبار، وتحديدًا المملكة العربية السعودية. وهناك معطيات أخرى قد تصعِّب انتخاب فرنجية: علاقته بالنظام السوري وروسيا، في ظل الحرب الروسية على أوكرانيا وتداعياتها.
هذه العوامل، معطوفة على وقائع ومتغيرات كثيرة في الواقع اللبناني العميق في شتى المجالات، تفرض آلية مختلفة في مقاربة الاستحقاقات: إما توفر ظروف إقليمية ودولية تؤدي إلى تسوية شاملة، وإما استمرار الاستنزاف الذي يؤدي إلى متغيرات جذرية في طبيعة النظام والتركيبة وآلية انتاج السلطة.