الثلاثة الكبار وآخرون يرسمون الفاصل بين شيعة لبنان وإيران
كتب أحمد عياش في "النهار":
أن يلتقي مجددا كبار العلماء الشيعة في لبنان الذين إمتد نفوذهم العلمائي على إمتداد مساحات واسعة في لبنان والعالم، وموقفهم من نظرية "ولاية الفقيه" التي تحكم إيران منذ العام 1979، له أهمية إستثنائية في المرحلة الراهنة على المستوى الشيعي في لبنان وخارجه. ويأتي هذا اللقاء في أحرج الظروف التي تمر بها هذه الطائفة بسبب الازمة المزدوجة التي تعانيها: فهي من ناحية مأزومة بسبب هذه الأحادية المفرطة التي فرضت شخصية واحدة لترؤس المجلس النيابي منذ 30 عاما، والتي تتأهب لولاية جديدة لآربع سنوات ، ما يجعل من الرئيس بري صاحب الرقم السياسي في منصب عام.
كما ان الطائفة الشيعية مأزومة ، بسبب "حزب الله" الذي يتربع على رأسه السيد حسن نصرالله منذ أعوام مماثلة لبري. هذا الحزب ما زال يقود الاتجاه المعاكس للاجماع اللبناني الذي يتمسك بالدولة مرجعية واحدة، فيفرض سلاحه المرتبط بإيران سلطة فوق سلطة الدولة. وهكذا صار لبنان عمليا بين فكيّ كماشة هما "ولي فقيه" سياسي هو بري ، و"ولي فقيه" عسكري هو "حزب الله."
من هم هؤلاء العلماء الشيعة الكبار الذين إلتقوا في الزمن الشيعي المأزوم اليوم؟ إنهم الامام موسى الصدر، السيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين. هذه القامات الروحية الشيعية التي غابت عنا ، إلتقت مجددا في كتاب كريم مروّة "أضواء على رواد الإصلاح الديني في العصر العربي الحديث"، الصادر في أيار الجاري عن "الدار العربية للعلوم ناشرون"، وقدّم له نقيب المحامين السابق رشيد درباس.
بالطبع، لم يكن الكتاب مقتصرا على هؤلاء المرجعيات الثلاث، بل كان شاملا ل 38 رائدا في الإصلاح الديني ، مثل رفاعة الطهطاوي وجال الدين الافغاني وطه حسين وغيرهم في العالم الاسلامي. كما شمل محسن الأمين ومصطفى الغلاييني وصبحي الصالح وأخرون في الفضاء اللبناني. لكن، ما يسترعي الانتباه، أن مروّة أضاء في سيرة الصدر وفضل الله وشمس الدين ما يهم لبنان جدا في مرحلة ما زال يكابد عناء فقدان الدولة لقدراتها بسبب نفوذ إيران المتمثل ب"حزب الله".
ماذا كتب مروّة عن موسى الصدر؟ جاء في الكتاب:" كانت الازمة السياسية والاجتماعية في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي في لبنان ، تتفاقم في صورة مضطردة الى ان بلغت في عام 1974 ذروتها... وكان الصدر في تلك الفترة قد أسس الى جانب المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى حركة المحرومين." ويلفت الكتاب الى ان من بين المستشارين للصدر في ذلك الوقت، كان الرئيس تقي الدين الصلح وغسان تويني والوزيران ميشال اده وبيار حلو. وابلغ تويني مؤلف الكتاب كان ان مستشاري الصدر كانوا يلتقون في جريدة "النهار." وتابع:" إتخذ الصدر قراريّن كان في شكلهما نقيضيّن لبعضهما، تمثل الأول في إصراره على اللاعنف كوسيلة عمل ونضال لتحقبق المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وتمثل الثاني ، في تشكيل حركة أمل ليس للقتال الداخلي، بل لمشاركة الشعب الفلسطيني في الكفاح ضد إسرائيل... وما إندلعت الحرب الاهلية(1975) ، حتى باشر إعتصاما مفتوحا في احد مساجد العاصمة قريبا من مواقع القتال إحتجاجا على بدء المعارك المسلحة ورفضا لجعلها وسيلة في الصراع."
وخلص مروّة في كلامه عن الصدر الى ان الأخير كان في مواقفه وفي حركاته يؤسس لدور المرجعيات والأحزاب الدينية في لبنان، وقد خلفه في ذلك فضل الله وشمس الدين "اللذين أعلنا بوضوح إختلافهما مع الجمهورية الإسلامية في ولاية الفقيه التي إعتبراها بحق بدعة إيرانية لا صلة لها بالشيعة الامامية." ولفت الكاتب الى ان "حزب الله" الذي إحتل "الموقع الأساس في الطائفة الشيعية بفضل دوره في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي"، قد تراجع "بعد إستخدام السلاح داخل لبنان وفي دعم النظام السوري."
عن فضل الله:" كان للقاءتي بالراحل، في مطلع ثمانينات القرن الماضي، أثر كبير عندي. وهو كان بادرني في أول لقاء بيننا بالقول:" نحن مفكران مختلفان...انت مفكر ماركسي مستقل عن مرجعية الاتحاد السوفياتي، وأنا مفكر إسلامي مستقل عن مرجعية الثورة الإسلامية في إيران."...لقد أذهلني موقفه هذا." ويضيف:" أن أهمية فضل الله ، لا تنحصر بالدعوة الى الإصلاح في الدين، بل هو لم يترك قضية وطنية في لبنان والعالم والعربي ، لاسيما في فلسطين والعراق ومصر، إلا وقدّم رأيا صريحا وجريئا."
ويعود مروّة الى حديث صحفي أدلى به فضل الله. فردا على سؤال حول التعصب والتطرف، قال السيد:" نحن نعيش واقع هذا الأفق الذي شمل العالم الإسلامي، وتحوّل الى حالة تكفيرية تؤدي الى ان يستبيح المسلم دم المسلم الاخر ، وحتى الى ان يستبيح المسلم دم غير المسلم...حتى في داخل المذهب الشيعي ، هناك بعض الشيعة يكفّرون بعضهم بعضا، والامر ذاته في داخل المذهب السنيّ." وخلص الكاتب الى القول:" ما ورد عن السيد فضل الله لا يعطيه حقه...ولن ادخل هنا في المؤسسات التي بناها وتركها بقيادة نجله السيد علي فضل الله."
ونصل الى الامام شمس الدين، فيكتب مروّة عنه قائلا انه واحد من "اكثر رجال الدين المسلمين في تاريخ لبنان الحديث إنفتاحا على الأديان الأخرى." ولفت الى ان معرفة شمس الدين بالصدر تعود الى النصف الثاني من القرن الماضي عندما التقيا في النجف ف"أصبحا صديقيّن ، وساهم معه في تأسيس مجلة "أضواء". وعندما عاد شمس الدين الى لبنان ، تابع تعاونه مع الامام الصدر ، وأسسا معا عام 1969 "الجمعية الخيرية الثقافية." كما إنضم الى الصدر في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى..."
وقال :" من أبرز وأهم مواقف الامام شمس الدين في تحولاته الجذرية ، أنه تمايز عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ وقت مبكر...وكان من معالم تمايزه ، أنه لم يؤمن بولاية الفقيه التي هي في الأساس من صنع إيراني قديم مستحدث." أضاف:" وكان في بعض مظاهر تمايزه في أواسط الثمانينات عن القرار السوري رفضه الانجرار في الحرب التي أعلنتها القيادة السورية ضد منظمة التحرير الفلسطينية." وخلص الى القول:" أما فيما يتعلق بإتفاق الطائف ، فقد عاد عن مشروعه الخاص بالديموقراطية العددية، معتبرا ان ذلك كان سيخلق خللا في وحدة المجتمع اللبناني التعددي الذي يشكل فيه المسيحيون قوة أساسية لا يجوز المس بدورها التأسيسي للكيان الوطني اللبناني."
هذا غيض من فيض كتاب مروّة، ومن صفحاته اللبنانية التي تعيد الى الواجهة زمن الكبار من القادة الروحيين في الطائفة الشيعية التي تمر حاليا بمنعطف مصيري.