الانتخابات النيابية انتصار الدستور وخروج لبنان من المدار الإيراني
كتب العميد الركن خالد حماده في "اللواء":
إنتصر الدستور وإنتصر مشروع الدولة في لبنان، هذه هي الأمثولة التي قدّمها اللبنانيون في الخامس عشر من أيار 2022. إنّه ليوم مجيد في تاريخ لبنان.
إنتصر الدستور المنبثق من وثيقة الوفاق الوطني ببُعدِه الإصلاحي الداخلي لتحقيق الدولة المدنية، وبُعدِه الوطني بالتمسّك بعروبة لبنان واستعادة الشرعيتيّن العربية والدولية. وقد أنقذت نتائج الإنتخابات مشروع شرعنة اختطاف الدولة عبر أكثرية مأمولة ولو بقوّة السلاح وضمّها عنوةً الى محوّر الفوضى عبْر مؤتمر تأسيسي أو عبر الإمعان بمذهبتها أو تشريع حشدها الشعبي. تلقى تحالف دمشق - طهران وحلفاؤهما صدمة قوية في صناديق الإقتراع بالرغم من كلّ الإرتكابات الإقصائية والتخوينية التي مورست بحق المرشّحين الخارجين على طاعتهم في المربّعات الأمنية والغيتوات التي يديرونها أو عبر منصّات أمّنها حلفاؤهم في مناطق عديدة لتوسيع دائرة الهيّمنة. تلقّى العهد بكلّ رموزه من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون حتى آخر بطانته السياسية رسالة صاعقة تدين المسار الذي بدأ بتحالف مار مخايل وانتهى بتحلّل الدولة والمؤسسات وإعلان الإنقلاب على الدستور في أكثر من مناسبة.
فشل تحالف دمشق - طهران عبر حزب الله في استكمال ما اعتقده تطوراً سلساً لمسار إقصائي اعتمده منذ العام 2005، وأراده عبر المؤسسات الدستورية هذه المرة. وبالمقابل نجحت القوى السيادية والمجتمع المدني في إعلان طيّ المشهد الذي كان يجب أن يطوى مباشرة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. خارطة ما بعد الإنتخابات النيابية لا تُختصر بفشل حزب الله وحلفائه في تأمين أكثرية نيابية، فالأكثريات التي أمّنتها ثورة الأرز على مدى ثمانية عشر عاماً لم تمنع حزب الله من تعطيل المؤسسات والإستحقاقات الدستورية وفرض أعراف خارجة عن الدستور على الحياة السياسية وإقحام لبنان في صراعات إقليمية.
الجديد في الإنتخابات أنها توخت استفتاء اللبنانيين حول مسألة السيادة حصراً بالرغم من الملفات المفتوحة حول الفساد واستقلالية القضاء واستعادة أموال المودعين والإصلاحات الهيكلية في القطاعات والإدارات كافة، وقد نجحت في رسم خط بياني واضح ليس بين فريقين متعارضين في السياسة، بل بين مفهوميّن واضحين للسيادة والإستقلال والمواطنة والقضاء، وستتبيّن مع الوقت الإفتراقات النوعيّة بين هذين الفريقين حول مسائل الحدود والنفط والغاز والهيئات الناظمة والتحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت وسواها، حيث ستشكّل بمجملها الديناميات الأساس لكلّ أشكال الحوكمة في المجالات كافة.
إنّ الوقائع المحققة، لا سيما منها نجاح المجتمع المدني في العبور الى البرلمان والدلالات التي حملتها نتائج الإنتخابات في كلّ من طرابلس وبيروت وصيدا والجبل، ستشكّل العامل الأساس لإسقاط أحاديّة الزعامة الطائفية التي عممت كقاعدة في الحكم وصيغت وفقاً لها توافقات حكومية ومحاصصات على حساب الدستور والمال العام وحقوق المواطنين. لقد عبّرت مدينة بيروت عبر المشاركة الواسعة لا سيما في دائرتها الثانية - بالرغم من ظروف حرجة فُرضت عليها - عن حيوية كبيرة في التمرد على قرارات شخصانية متوترة.
وقدّمت مدينة طرابلس بدورها خروجاً مشرقاً على أحادية الولاء التي طالما قيّدت قرارها ودورها ووضعت حقها في الإنماء المتوازن برسم مقايضات سياسية. أضحت طرابلس اليوم عصيّة على الإبتلاع وهي انعتقت من وكالة غير قابلة للعزل فرضتها زعامات تجاوزتها المرحلة. استعادت طرابلس بما تمثّل في البعد التاريخي والثقافي والإقتصادي والسياسي دوراً لا يليق إلا بها كعمق عربي يركن إليه صانع القرار في السرايا الحكومي عند المحطات المصيرية، وبما يجعل العاصمة بيروت عصيّة على التطويق.
وفي السياق الوطني عينه، نجحت صيدا في استعادة صفائها وإزالة الشوائب التي اعترت عروبتها النقيّة، صيدا التي ثابرت على تقديم رسائل يومية منذ اندلاع ثورة 17 تشرين والتي عبّرت عن رفضها لتحالف السلاح مع الفساد، بالرغم من ممارسات سرايا المقاومة على مدى ثلاث سنوات، وتمسّكت في الوقت عينه بموقفها الناصع من القضية الفلسطينية، ها هي اليوم وقد تخلّت عن تحالفات لا ترقى إلى أصالتها وشهدائها وتعلن تمسّكها بمشروع الدولة وتحاكي إمتدادها الطبيعي نحو جزين.
وفي ذروة التحضير للغزوة الفاصلة على ما تبقى من الدولة، إعتقد تحالف دمشق - طهران أنّ الأوان قد حان لإسقاط لبنان بالضربة القاضية، فكان جبل لبنان في دائرتيّ المتن الجنوبي والشوف - عالية هو الهدف المعلن. خاض أهل الجبل التّحدي، بما يمثّلون في تعدديتهم السياسية والثقافية وبما يختزنون من تجربتهم التاريخية ونجحوا بإسقاط محاولة استكمال الهيمنة. أجل لقد شكّلت الإنتخابات مفصلاً أساساً في استعادة الجبل خطابه الحقيقي كنواة مؤسسة للبنان الوطن وحاضنة للتنوّع السياسي.
ودون التقليل من أهمية التغييرات التي أكّدت على التمسّك بالسيادة والقدرة على التغيير في أكثر من دائرة إنتحابية ينطلق لبنان نحو عهد جديد في الحياة السياسية وتتحرر عاصمة لبنان وبرلمانه خارج المدار الإيراني بما يشكّل نموذجاً يُحتذى لإسقاط الهيمنة الإيرانية عن العواصم العربية.