النزاعات الإقليمية والأزمة القاتلة في لبنان
كتب البروفسور فيليب سالم:
مأساة لبنان هي في موقعه الجغرافي. فالأرض معلّقة على الصليب بين إسرائيل وسوريا والبحر المتوسط، ووحده البحر لم يكن عدائياً تجاهها. إضافةً إلى النزاعات المتكررة التي خاضها لبنان مع إسرائيل وسوريا، التحقت إيران مؤخراً، بأسلوبٍ مدمِّر، بركب الساعين إلى إعادة تصوّر المشهد السياسي في لبنان. منذ أواخر أربعينيات القرن العشرين، لبنان أسير النزاعات الإسرائيلية-الفلسطينية. فهو يستضيف على أراضيه أكثر من ثلاثة أرباع مليون لاجئ فلسطيني، وكان في مرحلة معيّنة معقلاً للمقاومة العسكرية الفلسطينية التي كانت السبب وراء قيام إسرائيل بشن هجمات عسكرية عدة على لبنان، وباندلاع حرب كبرى في عام 1982. لم تحترم إسرائيل ولا الفلسطينيون سيادة لبنان واستقراره. وقد أدّت منظمة التحرير الفلسطينية دوراً مدمّراً في إشعال فتيل الحروب في لبنان بين عامَي 1975 و1982. وإلى جانب العمليات العسكرية المتكررة، تخوض إسرائيل نزاعاً غير عسكري مع لبنان باعتباره نموذجاً للتعايش والتعددية الثقافية. من جهة أخرى، لم تعترف سوريا مطلقاً بلبنان كدولة مستقلة، وطموحها الأكبر هو احتلاله أو السيطرة عليه. مؤخراً، صدّرت سوريا نحو 1.5 مليون لاجئ إلى لبنان.
في الأعوام الخمسة عشر الماضية، تحوّلت إيران، نتيجةً لسياستها التوسعية، إلى سمسار النفوذ الرئيسي في لبنان. فقد أرست حضوراً سياسياً وعسكرياً قوياً من خلال "حزب الله" الذي أصبح القوة المهيمنة في البلاد، ويستخدم قوته هذه لبلوغ أهدافه، ليس داخل لبنان فحسب، إنما أيضاً في المنطقة بأسرها. الوجود الإيراني في لبنان عامل أساسي في تحقيق الرؤية العالمية للثورة الإسلامية الإيرانية، نظراً إلى أن لبنان يؤمّن منفذاً إلى البحر ومنطلقاً لشنّ هجمات على إسرائيل. والتهديد الذي يشكّله الوجود الإيراني لا يقتصر على هوية البلاد السياسية، بل يتعدّاها ليشمل هويتها الثقافية. إنه تهديد وجودي بكل ما للكلمة من معنى. فالثورة الإسلامية الإيرانية تسعى إلى تصدير رؤية جديدة قائمة على الدين وعلى النزعة التوسعية للنفوذ الشيعي. تتبنّى هذه الثورة ثقافة مناهضة للثقافة اللبنانية والغربية. إنها حركة سياسية متجذّرة في الأصولية الدينية، وتنفّذ مهمة خبيثة للسيطرة على الشرق الأوسط بأكمله، وليس على لبنان فقط.
لبنان هو الآن في عين العاصفة وفي خضم حربٍ تدور رحاها بين إسرائيل والغرب من جهة وإيران من جهة أخرى. إنه عالق حالياً بين إسرائيل المتجذرة في اليهودية وإيران المتجذرة في التشيّع، ولا يزال البلد الوحيد في الشرق الأوسط حيث لا دين رسمياً للدولة. لبنان هو أيضاً نموذج عن التعددية الثقافية والحرية والديمقراطية في العالم العربي، وبوتقة مصغّرة عن الثقافتين الشرقية والغربية. لذلك، تقتضي مصلحة الغرب بصورة أساسية إنقاذ هذا النموذج الفريد من نوعه في الشرق الأوسط الذي يعكس دون سواه الرؤية والقيم الغربية.
لم تكن إيران وإسرائيل وسوريا لتتمكّن من ارتكاب كل هذه الموبقات في لبنان لولا الطبقة السياسية اللبنانية الفاسدة التي استعانت بقوى خارجية لتحقيق أهدافها الشخصية على حساب رفاه البلاد وتمامية أراضيها. من أجل أن يتمكن لبنان من البقاء والاستمرار، يجب علينا دعم الثورة اللبنانية والعمل على تحقيق التغيير السياسي والإصلاحات. علاوةً على ذلك، ينبغي على المجتمع المدني مناشدة الأمم المتحدة رعاية مؤتمر دولي عن لبنان بهدف ضمان سيادته واستقراره. ويجب أن يؤكّد المؤتمر أيضاً حياد لبنان السياسي. الثورة ضرورية، لكنها غير كافية لوحدها. ثمة حاجة ماسّة إلى المساعدة من المجتمع الدولي ليستعيد لبنان نبض الحياة من جديد.
فيليب سالم طبيب وباحث متخصص بالأمراض السرطانية، وكاتب عن الشؤون اللبنانية والعربية.