المصائب لا تأتي فرادى: الحرب الباردة على الأبواب؟
كتب رضوان السيد في "اساس ميديا":
في العدد الجديد من مجلّة الشؤون الخارجية الأميركية (أيار-حزيران) مقالٌ عجيب: الحرب الباردة لم تنتهِ أو أنّها لم تتوقّف!
لقد تحدّثت دراسات كثيرة في الستينيّات عن الحرب الباردة الثقافية. وكان المقصود يومها الدعاية الأميركية ضدّ الاتحاد السوفياتي، وأنّهم، أي الأميركيين، متفوّقون أخلاقياً وسياسياً وليس عسكرياً فقط. فهم دعاة الحرّيّات والديمقراطية، بينما الاتحاد السوفياتي داعية الطغيان والاستبداد. اليوم نعرف أنّ المسألة كانت وما تزال مسألة ثقافةٍ بالفعل. فالإمبراطوريّات في أوروبا تحطّمت في الحرب الأولى، وفي الحرب الثانية تحطّمت محاولة ألمانيا لاستعادة ثقافة وممارسات الإمبراطورية. لكنّنا نسينا أنّ الإمبراطورية الروسية لم تتحطّم. فالسوفيات هم تغيير داخلي في نظام الإمبراطوية الروسيّة القديمة. الممتلكات لم تنقص، والممارسات لم تتغيّر. واليوم يقول الرئيس فلاديمير بوتين إنّه قيصريّ بقدر ما هو سوفياتي، وهو أوّلاً وآخِراً روسيّ. ونسينا أيضاً أنّه كانت هناك إمبراطورية صينية. وما غيَّرها التدخّل الياباني، بل إنّ الصيني ماوتسي تونغ هو الذي غيَّر نظامها ولم يغيّر روحها بالطبع. فالعالم يواجه اليوم إمبراطوريّتين. الروس كانوا يفضّلون دائماً التحرّك العسكري، إذ ليس لدى روسيا "قوّة ناعمة". أمّا الصين فقد صارت لديها "قوّة ناعمة" بسبب النهوض الاقتصادي. لكنّ إمكانيّاتها مفتوحة على الخيارين.
فقد بوتين صبره
الأميركيون يفضّلون تعبير الحرب الباردة. وفي الحرب الباردة التي نعرفها (1950-1990) لا تتدخّل القوى العظمى بالمباشر، بل تحارب بواسطة وكلائها. لكنّ الروس، وهم قوّة عسكرية عظمى، يتدخّلون اليوم بأنفسهم في كلّ مكان. وسيظلّ "الهجوم" الصيني مختلطاً، تارة بالاقتصاد، وطوراً بالعسكر.
الروس كان الأَولى بهم التدخّل بالواسطة، فعندهم قدرات النفط والغاز. لكنّه – وهذه هي ثقافة الإمبراطوريّة – فقد القيصر بوتين الصبر، وظنّ أنّ الغربيّين يخدعونه بالمطاولة لإكمال محاصرته، فتدخّل في أوكرانيا بعدما كان قد تدخّل في جورجيا، وفي عدّة جمهوريّات إسلامية.
الإمبراطورية الروسية فقدت كلّ ممتلكاتها تقريباً وما عاد فيها غير بعض الأقليّات الإثنية، الإسلامية وغير الإسلامية. وفقدان جمهوريات البلطيق وأوكرانيا ومولدوفيا ضربة عظيمة. فهي جمهوريات مسيحية ومعظمها أرثوذكسي. وقد نجحت روسيا في "التحالف" مع الجمهوريات الإسلامية (المستقلّة)، لكنّ هذا ليس كافياً، لأنّ التمرّد يظلّ ممكناً كما حدث مع كازاخستان أخيراً.
أمّا الصين فهي إمبراطورية مكتملة وما عاد عندها عار غير عار تايوان. وضمّها إليها أهون عليها من ضمّ روسيا لأوكرانيا. لكنّ التصرّف الإمبراطوري مكلف أيضاً. فالنهوض الاقتصادي الصيني اعتمد على الشراكة مع الولايات المتحدة، والتعرّض لتايوان يعني نهاية الشراكة، ويعني تعدّد الحروب على الصين في المحيط الشرق آسيوي وهو خائف من الصين منذ الإمبراطورية القديمة.
أميركا وارثة السوفيات
سلاح الولايات المتّحدة مختلف، لكنّ تصرّفاتها إمبراطورية أيضاً. وقد افترست هي والاتحاد الأوروبي كلّ ما خلّفه تحطّم روسيا السوفياتية، ويوغوسلافيا الاشتراكية. والآن تعود إمبراطوريّتها للتماسُك بسبب الخوف من الإمبراطوريّتين الروسية والصينية. كلّ دول أوروبا تقريباً تلجأ إلى أميركا. ولا إغراء لدول أميركا اللاتينية في الاتحاد الروسي أو الصيني. لكنّ نموذجَيْ كوبا قديماً وفنزويلا حديثاً يعطيان مثالاً لإمكانيات الابتزاز في العلاقات الدولية، وفي حالات الانقسام الدولي.
لكن هل تريد الولايات المتحدة تحمّل كلّ هذه الأعباء؟
عند الولايات المتحدة ممارسات إمبراطورية إنّما ليس عندها إمبراطورية ولا ذهنيّة الإمبراطورية. دائماً تندم على الغزوات، ودائماً تنسحب وتبدو في صورة المهزوم. وهذا بخلاف السلوك الروسيّ الذي هو على استعداد دائم للاستعمار والاستيعاب. ولا بأس إذا ازداد البؤساء واحداً أو اثنين. روسيا العظمى تحتضن شعوباً متعبة لكنّها في نظر القيادة الروسية شديدة الاعتزاز بانتسابها.
هذا التصوّر أو التصوير الأميركي لروسيا والصين يعيدنا إلى زمان الحرب الباردة في عزّها في الخمسينيّات والستينيّات من القرن الماضي. وقد كان الانتقاد شديداً لذاك التصوّر ومن الأوروبيين بالذات، لأنّهم كانوا يخشون أن تكون أوروبا للمرّة الثالثة المسرح لحربٍ عالمية. لكنْ عندما انتصر ذاك التصوّر بانهيار الاتحاد السوفياتي، ما عاد أحدٌ معتبراً للانتقاد، وإنّما انصرف البعض إلى انتقاد الهيمنة الأميركية الجديدة- القديمة.
وهكذا، وسواء أكان هذا التصوّر الإمبراطوري صحيحاً أم لا، لدينا أشائر إلى استعادة أجواء تشبه أجواء الحرب الباردة.
عودة الحرب الباردة
في الحقبة القصيرة للهيمنة (1990-2009) حدثت ثلاث أزمات مالية – اقتصادية آخرها عام 2008 (الانهيار العقاريّ). والأزمة الرابعة بسبب كورونا والمسؤولية فيها مشتركة ويُرجّح نصيب الصين. أمّا الأزمة الحالية الناجمة عن حرب روسيا على أوكرانيا فيشترك فيها ويجعلها أخطر: الأمن والاقتصاد.
لا يستطيع العالم الاستغناء عن روسيا في الطاقة والغذاء. وقد كانت هذه "الحرمانات" أو بعضها موجودة في الحرب الباردة الأولى، لكنّها عندما زالت في تسعينيّات القرن الماضي غطّتها العولمة التي سادت فيها الولايات المتحدة حتى نافستْها الصين. الوضع الآن أنّ روسيا الاتحادية تشعر أنّ العولمة الغربية افترستها بعدما عجزت عن أن تكون شريكةً فيها. والوضع الآن أنّ الصين تضخِّم جسدها الهائل أصلاً وتندفع لإزاحة الآخرين بحجّة استعادة وحدتها الوطنية وإشعاعها الإمبراطوري.
ما تأثيرات الأزمة العالمية الحالية على الشرق الأوسط، وبخاصة على العالم العربي؟
في العدد قبل الأخير من مجلّة الشؤون الخارجية الأميركية (آذار – نيسان) انعقد ملفّ ساهم فيه خمسة كتّاب عن الشرق الأوسط إنّما عن العلاقة المتغيّرة مع الولايات المتحدة. أمّا حديثنا هنا فعن تأثيرات الصراع الغربي/الروسي على العالم العربي. وفي البدء فإنّه لا بدّ من القول إنّ حقبة الهيمنة الأميركية كانت شديدة السوء على العرب جميعاً. فخلالها جرى غزو العراق، وانتشرت الحروب في وعلى عدّة دول عربية، وتهدّدت وما تزال بحار العرب وفضاءاتهم.
أمّا أوضاعهم الاقتصادية والإنسانية فهي، باستثناء دول الخليج، في منتهى السوء. لقد تهجّر عشرات الملايين، وقُتل أكثر من مليون، وتدمَّر العمران في عدّة بلدان. وبالطبع ليست الولايات المتحدة هي المسؤولة وحدها، لكنّها شاركت في التخريب والخراب والمسؤولية إلى جانب إيران وتركيا وأطراف داخلية طائفية وأنظمة تسلّط. أمّا الآن وفي صراعات الأزمة المتعدّدة الجوانب فإنّ العرب بعامّة يبتعدون عن الولايات المتحدة أو يُظهرون ذلك، ويقتربون من روسيا والصين. وهناك تقارب مع تركيا ومحاولات مع إيران. بيد أنّ أزمات الدول والبلدان الأربعة أو الخمسة لا تتّجه إلى حلولٍ أو انفراجات. وقد يحول الصراع الدولي الملتهب دون الحلول المرجوّة من عشر سنوات. وإذا كان الروس والصينيون يناضلون للخلاص من الأوضاع السائدة منذ التسعينيّات، فإنّ العرب ما يزالون مفتقرين إلى المبادرة الشاملة وبخاصةٍ في فلسطين. لكن أيضاً في العراق وسورية ولبنان. وهناك مبادرة المملكة في اليمن، وجهود محمد بن زايد وليّ عهد أبوظبي للاجتماع على مسارٍ في المشرق العربي أو في الخليج على الأقلّ.
يعتبر بعض المراقبين الانقسام العالمي الحادّ فرصةً للعرب. لكنّني أرى أن لا تقدّم بدون مبادرة، وهي شديدة الصعوبة في ظروف الانقسام: {والله غالبٌ على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون} (سورة يوسف: 21).