أين الطبقة الوسطى من مذكرة التفاهم مع صندوق النقد الدولي؟
منذ انفجار الأزمة المالية-النقدية-المصرفية المتعدّدة الوجوه عام 2019 والتي لا سابقة تشبهها في التاريخ الحديث بين الدول، ولا تشبه تراكم عناصرها منذ حدوث انقلاب المؤشرات الاقتصادية منذ عام 2011 تزامناً مع تبدّل المناخ السياسي داخلياً وخارجياً، والجميع ينتظر لحظة إعادة النهوض.. صحيح أنّ الانهيار يحصل سريعاً والنهوض يحتاج الى جهد ووقت وتضحيات، ولكن الأهم فيه هو استعادة الثقة بإمكانية النهوض ووجود عين ساهرة على الإصلاحات التي تسمح بتحقيقه، وهنا صلب أهمية مذكرة التفاهم المرجوة مع صندوق النقد الدولي، بعد الإطلاع الأولي على مسودّة المذكرة التي تتضمّن الإجراءات الموعودة من الحكومة اللبنانية للتفاهم مع الصندوق. أسئلة هادفة تتطلّب التوقّف عندها في مختلف المحاور.. وأبرز ما يجمع بينها أبعد من التقنيات المتعلّقة بكل منها هو، أين الطبقة الوسطى من كل المقترحات؟
من أبرز ما أشارت اليه خطة الحكومة المسرّبة هو احتياجات إعادة رسملة النظام المصرفي التي تزيد عن 72 مليار دولار اميركي (أي ما يزيد عن 300 % من تقديرات الناتج المحلي الاجمالي لعام 2021).. وهنا السؤال: على أي أساس يتمّ احتساب الناتج المحلي؟ وإذا كان على أساس سعر صيرفة، بل لمجرّد أن يكون أي مؤشر على أساس سعر صيرفة، يصبح من الضروري اعتماد كل بقية الأرقام على هذا الأساس للتمكّن من احتساب المؤشرات بنحو متناسق ومنطقي وقابل للمقارنة.. فلا يعود جائزاً مثلاً التغاضي عن تحديد سعر الصرف للجزء الأعلى من الودائع التي تفوق الـ100 ألف دولار أميركي، والذي يُرتَقَب تحويله من الدولار الى الليرة، وتركه مفتوحاً على مختلف الاحتمالات... وهنا التساؤل الأول في شأن الطبقة الوسطى التي جمعت مبالغ متوسّطة تفوق بقليل الـ100 ألف دولار، بعد سنوات عمل وجهد وتعويض نهاية خدمة تعتمد عليه، في ظل غياب أي ضمان شيخوخة وأي رواتب تقاعدية، خصوصاً بالنسبة إلى العاملين في القطاع الخاص في مجالات لا يوجد لها صناديق معاشات تقاعدية...
نظرياً، تحرير سعر الصرف ثم توحيده هما مطلب اقتصادي لإنهاء حالة الفوضى وتعدّد معدلات الصرف في سوق القطع. ولكن في الاقتصاديات المدولرة جزئياً وبنحو غير رسمي كما هي الحال في لبنان، فإنّ مسألة تحرير نظام سعر الصرف وتعويمه دون قيود ليست بالأمر السهل الخالي من التداعيات السلبية على الاقتصاد.
على خطٍ موازٍ، يحتاج تحرير سعر الصرف إلى استقرار سياسي وقرار بوقف عملية المضاربة، وذلك منذ ما قبل انفجار الأزمة في خريف 2019، حيث كان بدأ مناخ الاستقرار السياسي يتدهور منذ العام 2011 وتفاقم منذ العام 2018. وقد ذكرت وكالات «فيتش، موديز وستاندرد أند بورز»، في تقاريرها، عن تدهور تصنيف لبنان السيادي وتراجع تقييم سنداته (الأوروبوند) منذ مطلع عام 2019، الى ارتباط ذلك التدهور بعامل المخاطرة المرتبط بالوضع السياسي، الى جانب طبعاً تدهور ميزان المدفوعات، الذي انقلبت حاله من فائض يتخطّى 7 مليارات دولار قبل العام 2011 الى تراكم عجوزات منذ العام 2012 بنحو متواصل، مما يعني خروجاً صافياً للعملات الأجنبية سنوياً أكثر من دخولها الى البلد، ما عدا عامي 2016 و2017، حيث ساهمت الهندسات المالية في استقطاب بعض الدولارات من الخارج...
من هنا، لا يمكن تحرير سعر الصرف قبل تحديد الخسائر المالية وآليات توزيعها القابلة للتطبيق، لأنّ تعويم سعر الصرف سيظّهر كتلة ضخمة من الخسائر المتراكمة داخل مصرف لبنان والمصارف، بعد أن يتمّ تقويم الالتزامات الضخمة للمودعين بحسب قيمة الدولار الجديد في مقابل الموجودات الضئيلة بالعملة الصعبة. من هنا، يعود السؤال عن مصير الطبقة الوسطى، علماً أنّ بين العام 1975 و1992 كان نمو الودائع بالعملات الأجنبية مساوياً تماماً نمو الأصول الصافية بالعملات الأجنبية للجهاز المصرفي، أما بعد عام 1992 فأصبحت الودائع بالعملات الأجنبية تتنامى أكثر وأسرع، ليستمر نموها بنحو متوازٍ مع نمو الأصول الصافية بالعملات الأجنبية للمصارف بدءاً من عام 1997، تاريخ بدء تطبيق نظام ربط سعر صرف الليرة بالدولار الأميركي على أساس 1507.5 ليرة لبنانية للدولار الأميركي الواحد، وحتى العام 2011، ما يعني المحافظة على إمكانية تغطيتها..
أما ابتداء من العام 2011 فقد تسارع نمو الودائع بالدولار الأميركي خصوصاً بمبالغ متوسّطة، تعكس في شكل أساسي جهود الطبقة الوسطى اللبنانية العاملة في الداخل والخارج وتوظيف أموالها في لبنان، خصوصاً مع الارتفاع القياسي في معدلات الفوائد الذي لم يقرأه كثيرون بينهم بمعناه الاقتصادي المعروف وهو «عامل المخاطرة».. فاستمروا في زيادة الودائع بالدولار، كما استمر نموها التلقائي بفعل الفوائد multiplicateur de credit المرتفعة عليها، ناهيك عن تناميها بفعل «مضاعف الإئتمان»، حيث كانت المصارف تزيد من التسليفات بالعملات الأجنبية استناداً الى النمو «الدفتري» للودائع بالعملات الأجنبية، في حين بدا للمرة الاولى في تاريخ لبنان المنحى الإنحداري للأصول الصافية بالعملات الأجنبية لدى الجهاز المصرفي، أي منحى معاكس تماماً لمسار الودائع المسجّلة بالعملات الأجنبية، والتي بدأت منذ ذلك الحين تفقد تغطيتها الفعلية تباعاً وبنحو مستمر منذ العام 2011 مع بداية تراكم عجوزات ميزان المدفوعات، أي الخروج الصافي السنوي للعملات الأجنبية من لبنان ...
كذلك قدّرت الخطة الحكومية رأس المال السلبي المتراكم في مصرف لبنان، بنحو 60 مليار دولار أميركي، غير انّ القيمة الحقيقية في حاجة إلى مزيد من التدقيق.. اذاً، على أي أساس سيتمّ احتساب توزيع الخسائر؟ وهل أنّ التوزيع النهائي سيبقى قابلاً للتحديث بعد «مزيد من التدقيق» بأرقام مصرف لبنان والرصيد السلبي لرأس المال؟
كما طرحت الخطة «شطب بدءاً ذي بدء جزء كبير (نحو 60 مليار دولار) من التزامات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية إزاء المصارف التجارية، وذلك من اجل إغلاق صافي وضع المصرف في ما يتعلق بالعملات الأجنبية المفتوحة».. والسؤال، على أي أساس ستتمّ عملية الشطب؟ هل تطاول شهادات الإيداع التي اشترتها المصارف التجارية كتوظيف لدى المصرف المركزي للودائع لديها؟ يعني ذلك شطباً للودائع نفسها..
كما لفتت الخطة إلى «إعادة رسملة مصرف لبنان جزءاً بسندات سيادية مقدارها 2.5 مليار دولار اميركي يمكن زيادتها إذا اتسق ذلك مع قدرة الدولة على تحول أعباء الدين العام. اما ما تبقّى من الخسائر السلبية في رأس المال، فسوف تُلغى تدريجياً على مدى 5 سنوات». فماذا يكون مصير الودائع في المصارف التي تُعتبر «غير قابلة للاستمرار»؟ وهل المصرف المركزي الذي يعاني من العجز المشار اليه أعلاه، قادر على استيعاب إدارة أوضاع هذا الكمّ المنتظر من المصارف «غير القابلة للاستمرار»؟
وذكرت الخطة، أنّ «من الضروري إعادة رسملة البنوك التجارية لتسوية الخسائر الناجمة عن إعادة هيكلة الديون السيادية والتزامات مصرف لبنان، وتعثر محافظ القروض الخاص بها، ووقع توحيد سعر الصرف على موازنات هذه المصارف، وسوف يتطلب ذلك مساهمات كبيرة من المساهمين والدائنين للبنك من غير أصحاب الودائع. مساهمات ضخمة من كبار المودعين». هذا يعني مساهمة المودعين الكبار، وفق التصنيف أصحاب الودائع التي تفوق الـ100 ألف دولار أميركي، هل ذلك يشمل المؤسسات الصحية والتربوية وصناديق التعاضد وصناديق النقابات وغيرها، التي تؤمّن استمرارية عملها وحقوق العاملين فيها او المشتركين فيها؟ وإلّا، أين يتمّ ذكر الإستثناءات؟
وقد بدأ في تقييم الخسائر وبنية الودائع لكل بنك على حدة، وذلك لأكبر 14 مصرفاً (ما يمثل 83% من مجمل الاصول) عن طريق لجنة الرقابة على المصارف بمساعدة شركات دولية مرموقة. فكيف يمكن «حذف جزء من الودائع»؟ أي حق الملكية فيها؟ ألم يكن الأجدى ضمان استعادتها وفق جدول زمني من خلال خلق صندوق سيادي تلتزم الدولة بتحمّل مسؤوليتها تجاه المودعين من خلال ايراداتها عبره؟ وإلاّ عن أي استعادة ثقة بالقطاع المصرفي يمكن التحدّث»؟؟ أما تحويل جزء منها بحصص ملكية فيمكن أن يحصل في المصارف القابلة للاستمرار. ولكن، ماذا عن الودائع في المصارف غير القابلة للاستمرار؟ وأين يمكن احتساب الحصص مقابلها؟ وماذا عن تحوّل جزء آخر الى الليرة؟ ووفق أي سعر صرف؟ كيف يمكن اعتماد سعر صرف موحّد وسعر المنصّة لكافة معاملات الدولة، ولا يكون سعر الصرف نفسه لتحويل جزء من الودائع بالعملات الأجنبية؟
أبعد من ذلك، على أي أساس يمكن الطموح لاجتذاب مساهمين جدد في المصارف القابلة للاستمرار، طالما يسهّل شطب الرساميل وجزء من الودائع عند حدوث انهيار من القطاع العام نفسه الذي أنفقها بين الخزينة العامة ومصرف لبنان وسلفات الكهرباء وغيرها، من دون تحمّل أدنى مسؤولية لا تجاه المساهمين في المصارف ولا تجاه المودعين؟ يُذكَر أنّ اللجوء الى التمويل العام من المصارف تمّ مع تراجع المكتتبين في سندات الخزينة التي كانت تتراجع الثقة بها مع تدهور تصنيفها.. أي مصادر أخرى يمكن اللجوء اليها عبر الاستدانة من غير الجهاز المصرفي، بعدما أعلن لبنان العجز عن سداد ديونه بنحو أحادي ومن دون أي مفاوضات مع الدائنين، خصوصاً بالعملات الأجنبية؟ علامَ يمكن أن ترتكز «شبكة الأمان المالية» في حين أنّ مصادر التمويل العام معروفة (الضرائب والرسوم، وخلق النقد من المصرف المركزي واللجوء الى الدين الداخلي والخارجي)
أما في الحديث عن وضع المالية العامة والدين المرتقب إعادة هيكلته، فكيف سيحتسب الدين العام؟ على أساس أي سعر صرف؟ علماً أنّ أكثر من ثلثي الدين العام هو بالليرة، وبالتالي انخفضت جداً قيمته الفعلية اذا تمّت عنونته بالدولار لاحتساب مجموع الدين الداخلي والخارجي.. وكيف سيتمّ احتساب عجوزات الكهرباء وسلفات الخزينة لها التي كانت توضع خارج العجز المالي السنوي؟ وماذا أيضاً عن تراكم الفواتير غير المدفوعة (المستشفيات والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي) الذي اكتتب أيضاً بسندات الخزينة، وللمقاولين وسائر المؤسسات العامة؟ وكيف ستتمّ عملية إعادة هيكلة الأوروبوند ونسبة الاقتطاع؟
وأما لجهة مصرف لبنان، فقبل حدوث الأزمة كان يستخدم عمليات مالية غير تقليدية لجذب التدفقات النقدية الى الداخل ودعم تثبيت سعر الصرف، وبصورة غير مباشرة، تمويل عجز الموازنة. وعقب خروج رأس المال والودائع الكبرى، خصوصاً بعد بداية تراكم عجوزات ميزان المدفوعات، وما كانت الهندسات المالية عامي 2016 و2017 إلّا محاولة لشراء الوقت على أمل الإصلاح.
أما اليوم، فتقول الخطة «بتوحيد سعر الصرف للمعاملات المصرّح بها (إجراء سابق) بعد تحويل منصة «صيرفة» منصة تداول ملائمة، تجري من خلالها كل المعاملات المصرّح بها ويُحدّد سعر الصرف فيها على أساس يومي»، ولكن، لأي معاملات سيتمّ توحيد سعر الصرف؟ هل فقط لمعاملات الدولة؟ وإلّا، لماذا لم يشمل الودائع المصرفية للجزء الذي سيتمّ تحويله من العملات الأجنبية الى الليرة اللبنانية؟ على أساس أي قاعدة سيتمّ تدخّل المصرف المركزي لمنع التقلّبات الكبرى لسعر الصرف؟ وبأي أموال بالعملات الأجنبية؟ ماذا سيصبح معدّل الاحتياطي الإلزامي؟ وكيف ستتمّ إعادة تكوين احتياطات المصرف المركزي؟ وماذا عن بنود قانون النقد والتسليف المتعلّقة باستقلالية المصرف المركزي (البند 13)؟ وماذا عن البنود المتعلّقة بتحويله جزءاً من أرباحه السنوية الى الخزينة العامة؟ (البند 113)
الأسئلة كثيرة وهروب الجميع الى الأمام أكثر، وكل بند في الخطة المطروحة قابل للنقاش في ما يتعلّق بخطورة إنعكاساته على ما تبقّى من طبقة وسطى «العالقة» و»المتعلّقة» حقوقها في مصير الجهاز... الإشكالية اليوم لم تعد تقتصر على مصير الطبقة الوسطى والقوى الحية في الاقتصاد، بل تتعدّاها الى البحث عن طريقة استعادة ثقتها لإعادة البناء من جديد...
الجمهورية - سهام رزق الله