تقاطعات دولية وإقليمية على حدود الدونباس
كتب العميد الركن خالد حماده في "اللواء":
لم تعدْ عناوين شدّ العصب الغربي لمواجهة روسيا ونرجسيّة رئيسها أو تماسك حلف الناتو وتوحيد القرار الأوروبي كافية لتوصيف الأهداف الأميركية من إطالة أمدّ الحرب في أوكرانيا وتوسيع دائرتها، كذلك لم تعدْ توصيفات الحرب بالوكالة بين إنفصاليين تقودهم روسيا من الخلف وأوكرانيين عسكريين ومتطرفين تقود حملات دعمهم الولايات المتّحدة بشكل علني، كافية للإحاطة بتداعيات الحرب القائمة أو مآلات تطورها.
خفّضت روسيا سقف أهدافها إستناداً لقراءة واقعية للمجابهة الدولية الواسعة التي أظهرتها الوقائع الميدانية والدبلوماسية والإقتصادية خلال الشهر الأول من اندلاع الحرب، واستحالة إحراز أيّ تقدّم أو تحمّل المزيد من الخسائر. محاذير الفشل ومخاطر الذهاب الى حرب طويلة هي الدروس المستفادة من المرحلة الأولى للحرب. إختارت روسيا حصر حدود العملية العسكرية بإقليم الدونباس واستقلال جمهوريتيّ لوغنسك ودونيتسك، واستخدام نقاط القوة المتاحة وهي دعم الإنفصاليين والمحافظة على الحلفاء واستدامة تزويد السوق بالطاقة. الولايات المتّحدة التي هالها انفلات العديد من الدول من المدار الأميركي في لحظة المواجهة الحرجة، حوّلت الدروس المستفادة من المرحلة الأولى للحرب الى مضبطة سلوك لفرز الحلفاء والأعداء إنطلاقاً من تجاوبهم مع إجراءاتها واستعدادهم لمواكبة خياراتها، وآثرت المباشرة باتّخاذ التدابير المناسبة لتأديبهم. الحكومات المدرجة على لوائح التأديب تمتد من شرق آسيا حتى البحر المتوسط، وأول الغيث إسرائيل والباكستان وإيران وربما لاحقاً دول الخليج العربي، وإطار الإتّهام هو مثلث الطاقة والعلاقة مع كلّ من الصين وروسيا.
أولاً، لا يمكن اعتبار إنسحاب عضوّة الكنيست عن حزب «يمينا»، عيديت سيلمان من رئاسة وعضويّة كتلة الإئتلاف الحكومي في الأسبوع المنصرم من قَبيل الصدفة، كما لا يمكن فصله عن المواقف التي اتّخذتها الحكومة الإسرائيلية من الحرب في أوكرانيا. قد لا يكون الخطأ الكبير الذي ارتكبه بينيت هو في عدم تطبيق العقوبات التي إقترحتها الولايات المتّحدة وطبّقها الإتّحاد الأوروبي وعدد كبير من الدول، بل بالإستثمار في إتّفاقات التطبيع والتسويق لتحالفات إقليمية دفاعية بما يتجاوز الجرعات المسموحة أميركياً. إستقالة سيلمان تعني أنّ حكومة بينيت لم تعدْ قادرة على تقديم أي مشاريع قوانين وتمريرها في الكنيست وبمعنى آخر تعليق مسؤولياتها وإسقاطها في الوقت المناسب إذا دعت الحاجة.
ثانياً، خلال الأسبوع المنصرم ترجمت الولايات المتّحدة غضبها من رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان. حَجَبَ البرلمان الباكستاني الثقة عن حكومته، ليحلّ مكانه بالأمس شهباز شريف على رأس القوة النووية البالغ عدد سكانها 220 مليون نسمة. مهمة شهباز ستكون تشكيل إئتلاف حكومي من أحزاب إسلامية منها جماعة «علماء المسلمين» و«الرابطة الإسلامية»، اتّحدت للإطاحة بخان.
لم يكن وراء الغضب الأميركي من عمران خان موقفه من حركة طالبان، وهو المتحدّر من إثنية البشتون التي تشكل العصب الرئيس للحركة، فقرار الاطاحة به اتخذ منذ فوز تكتله في الانتخابات النيابية الأخيرة وبناءً على سلسلة من المواقف أكّدت لواشنطن أنّ باكستان على وشك الخروج من المدار الأميركي. عمران خان الذي رفض مراراً إقامة قواعد عسكرية أميركية في بلاده التي لها حدود مشتركة مع الصين، وأعلن انضمام بلاده الى المبادرة الصينية « الحزام والطريق» ووقّع معاهدة إقتصادية معها بقيمة 62 مليار دولار، أضاف الى محفظته الأميركية موقفاً متناغماً مع موسكو - منذ اندلاع الأزمة بين روسيا وأوكرانيا- وقد زارها وأعرب عن تأييده فلاديمير بوتين وامتنع عن المشاركة في العقوبات التي فُرضّت على موسكو.
محاسبة خان قد لا تتوقف عند الإنتخابات النيابية في أكتوبر القادم إذا لمس الأميركيون إمكانية عودته بأكثرية نيابية، فربما تمتد المحاسبة الى ترتيب إنقلاب عسكري، فالجيش الباكستاني قد قام بأربعة إنقلابات منذ تأسيس باكستان بترتيب أميركي.
ثالثاً، إيران التي طالما سارت بجدارة على حافة المصالح الأميركية وحرصت على اللعب داخل الحدود المتاحة بما مكّنها من نشر ميليشياتها من اليمن حتى لبنان وتكريس نفسها كلازمة أميركية لتهديد الإستقرار في العالم العربي، تجد نفسها اليوم في طور البحث عن الملاءمة ما بين موقفها الحرج مع روسيا بحكم المصالح في سوريا وفيينا والتقارب المنشود مع مجموعة فيينا ونتائجه الإقتصادية. تزامن توقيت العملية العسكرية في أوكرانيا مع الأيام وربما الساعات الأخيرة لإخراج الإتّفاق النووي الى الضوء، فتوقفت المباحثات ودخلت إيران في آليّة الفرز الأميركية. تقاطع المأزق الإيراني الناجم عن مخرجات إجتماع النقب الذي حضرته مصر والإمارات والبحرين والمغرب وإسرائيل مع الإمتعاض الأميركي من لقاء دول الإتّفاق الإبراهيمي، فتزامن المسعى الأميركي بإسقاط الائتلاف الحكومي الإسرائيلي مع المسعى الإيراني بتكثيف العمليات في الداخل الإسرائيلي.
تُظهر الحرب المفتوحة في أوكرانيا خللاً في قواعد التحالفات القائمة، وتقدّم فرصاً لنشوء توافقات إقليمية ودولية على قواعد المصالح المستجدّة. ففي ظلّ تحلّل الآحادية الأميركية والإنهيارات الإقتصادية التي تشهدها دول الغرب بشكلٍ عام، تبدو المنطقة العربية التي خبرت بعد انتهاء الحرب الباردة أكثر الصراعات حدّةً ومنها الأصولية، هي الأكثر قدرة اليوم على إنتاج عناصر الإستقرار الإقليمي، وقد تكون المبادرة الخليجية لإحلال السلام في اليمن التي تحظى بإهتمام دولي هي أحدى المبادرات الواقعية في هذا الإتّجاه بعد العجز الواضح للمجتمع الدولي.
وبالتزامن مع غرق العالم في مآلات الصراع في أوكرانيا، تُعلن المبادرة الخليجية باتّجاه لبنان عبر عودة السفيرين السعودي والكويتي الى بيروت إصرارها على دعمه، ويوقّع صندوق النقد الدولي إتّفاقية النهوض بالرغم من فشل وعجز مؤسّساتنا الدستورية، وعلى الضفة الأخرى للبنان تسعى إيران عبر حزب الله والسفارة السورية للتجديد لمخلّفات طبقة سياسية فاشلة وفاسدة.
إنّها العيّنة اللبنانية من التقاطعات الإقليمية والدولية على حدود الدونباس.