السرطان و"كوفيد ـ 19".. انتصار العلم وفشل السياسة
قبل سنتين، ولسنين عديدة، كنا في مثل هذا اليوم نقف أمام عرش السرطان، إمبراطور الأمراض كلها، بخوف وهيبة. أما اليوم فقد جاء زائر جديد إلى الأرض ينازع السرطان على عرشه. إنه (كوفيد - 19) المرض الذي يسببه فيروس «كورونا». الفرق بين المرضين كبير. إذ إن مرض (كوفيد - 19) مرحلي، يفتك ويقتل ويدمر، ولكنه بالنهاية سيرحل بعد سنة أو سنتين على الأكثر؛ أما السرطان فهو مرض باق على هذه الأرض، يعذب ويقتل ويحطم كرامة الإنسان. ولكن هناك ظاهرة واحدة تجمع بين الاثنين وهي الفجوة الشاسعة بين المعرفة التي نمتلكها من جراء تراكم الأبحاث العلمية، والمعرفة المتاحة لنا باستخدامها في حماية البشر ومعالجة المرضى.
نحن نمتلك اليوم المعرفة التي تخولنا الوقاية من السرطان في أكثر من 75 في المائة من الأمراض والتي تخولنا أيضا الشفاء التام لأكثر من 60 في المائة من المرضى. ولكن المعرفة التي نستعملها اليوم في الوقاية وفي العلاج هي أقل من 8 في المائة من هذه المعرفة المطلقة. خذ مثلاً في الوقاية. فإن ثلث المرضى المصابين بالسرطان سبب الإصابة عندهم هو التدخين. والسؤال، ماذا فعلنا في هذا المضمار للقضاء على هذه الآفة؟ وفي ثلث الأمراض السرطانية الأخرى سبب الإصابة هو الالتهابات الجرثومية كالالتهابات المتكررة في الكبد، والمثانة، والجهاز الهضمي. هذه الالتهابات إن عولجت وهي في المراحل الأولى بواسطة المضادات الحيوية، نمنع تطورها إلى مرحلة السرطان. وهناك لقاح جديد هو Human papillomavirus vaccine. هذا اللقاح يمنع حصول الإصابة بسرطان عنق الرحم عند المرأة لأنه يحمي المرأة من الالتهابات الجرثومية في عنق الرحم التي هي بالتالي تسبب السرطان.
والتقدم الذي حصل في الآونة الأخيرة في معالجة الأمراض السرطانية كان مذهلاً. لقد تطور العلاج الكيميائي كما تطور العلاج المستهدف واكتشف حديثاً العلاج المناعي. إلا أن المشكلة تكمن في القدرة على الحصول على هذه العلاجات الحديثة. إن إمكانية الشفاء التام من الأمراض السرطانية تتوقف على عوامل ثلاثة: نوع المرض، والاكتشاف المبكر، وجودة العلاج. في الاكتشاف المبكر نحن لا نزال على مسافة بعيدة من هذا الهدف. وقد نشأت حديثاً مشكلة جديدة وهي ضرورة تشخيص المرض بناء على تحديد الهوية البيولوجية (genomic profiling) له. كنا في الماضي نعالج المريض بناء على الهوية الميكروسكوبية أي كما يظهر المرض تحت المجهر. ولكن اليوم لم يعد هذا كافياً. لقد أصبح من الضروري تحديد الهوية البيولوجية، بالإضافة إلى الهوية الميكروسكوبية للمرض. من دون تحديد هاتين الهويتين يصبح من الصعب صنع استراتيجيات علاجية تقود إلى الشفاء التام. ومن المؤسف جداً أن المختبرات التي تُعنى بتحديد الهوية البيولوجية ليست متوفرة في أكثر بلدان العالم.
وبالنسبة للعلاج فبدل أن نشفي 60 في المائة من المرضى نحن نشفي اليوم أقل من 10 في المائة. هذا يعني أن 50 في المائة من المرضى يلقون حتفهم ليس لعدم قدرة الطب على شفائهم، بل لعدم قدرة هؤلاء المرضى على الحصول على أفضل العلاجات. وهناك سر في معالجة هذه الأمراض، وهو أن الفرق بين العلاج التقليدي والعلاج الأفضل قد يكون الحياة. عقبات كثيرة تحول دون العلاج الأفضل. من هذه العقبات شركات التأمين والسياسة الصحية للدولة وغلاء الدواء.
في السنتين الماضيتين شهد العالم ما لم يشهده من قبل. لقد اعتدى على الأرض كلها فيروس جديد لم نعرفه من قبل. لم يفرق هذا العدو بين إنسان وآخر. بين فقير وغني، أو بين أبيض وأسود. لقد أحكم هذا العدو قبضته على العالم، وقتل أكثر من ستة ملايين إنسان ليومنا هذا. كانت هذه الجائحة مظهراً من مظاهر فشل السياسات الصحية في العالم، وعدم احترام الإنسان للدور المحوري للصحة في حياته. ولكنها كانت في نفس الوقت مظهراً من مظاهر انتصار العلم وعظمة البحث العلمي. في مدة زمنية تقل عن سنة طور العلماء لقاحات فعالة متعددة تحمي الإنسان ضد الالتهابات التي يسببها هذا الفيروس، كما طوروا علاجات مختلفة تخفف من حدة المرض، ومن قدرته على إحداث الوفاة. هذه اللقاحات وهذه الأدوية تشكل انتصاراً للبحوث العلمية، ورمزاً لقوة العلم وأهميته في دعم الإنسان والحفاظ على حياته وكرامته.
في الجهة المقابلة كان هناك فشل ذريع للسياسة. لم تكن دول العالم مهيأة لردع هذا العدو. وكانت الدول التي تعتبر نفسها متحضرة كأميركا وبريطانيا وفرنسا قد وضعت سياسات دقيقة وبتكلفة خيالية للوقاية من اعتداء نووي؛ ولكنها لم تضع أي سياسات جدية للوقاية من اعتداء جرثومي كهذه الجائحة. ومنظمة الصحة العالمية التي أسستها الأمم المتحدة خصيصاً لحماية الإنسان من الأمراض، لم تقم بدورها بشكل فاعل. لقد فشلت هذه المنظمة في اكتشاف المرض باكراً واحتوائه، كما فشلت في تحديد منشئه. وعندما طور العلم اللقاحات والأدوية لم تتمكن هذه المنظمة من إيصال هذه اللقاحات والعلاجات إلى الدول الفقيرة.
إن ما عانيناه في زمن هذه الجائحة من خوف ومرض وموت يجب ألا يمر «مرور الكرام». لقد كانت الجائحة بالطبع مأساة كبيرة، ولكن المأساة الأكبر هي أن ندعها تمر من دون أن نتعلم منها شيئاً. وماذا يمكننا أن نتعلم منها؟ يمكننا أن نتعلم الأمرين التاليين:
أولاً: هناك فجوة كبيرة بين ما نعرفه بالمطلق وبين ما نضعه من هذه المعرفة في خدمة البشر. لذلك يجب صنع سياسات صحية وآليات دقيقة لتنفيذها حتى نتمكن من وضع المعرفة التي نمتلكها في المطلق كلها وليس بجزء ضئيل منها في خدمة الإنسان.
ثانياً: ونأمل أن نكون قد تعلمنا أن الصحة هي أهم ما يمتلكه الإنسان، وأنه يجب أن تكون الرعاية الصحية هي الأولى في سلم الأولويات لأي دولة أو مجتمع في العالم. وكذلك يجب تطوير شرعة حقوق الإنسان ليكون الحق في الصحة هو أهم حق للإنسان. إن كل الحقوق التي تتكلم عنها شرعة حقوق الإنسان مجموعة مع بعضها البعض لا ترتقي لتكون بأهمية الحق في الصحة، إذ إن الحق في الصحة هو بمثابة الحق في الحياة. يجب أن يحيا الإنسان أولاً لكي يمارس الحقوق التقليدية التي تتكلم عنها شرعة الأمم المتحدة. الحياة أولا ثم تأتي الحقوق. ليست هناك حقوق دون حياة.
الشرق الأوسط - د. فيليب سالم