من العراق إلى لبنان المطلوب "الإطاحة بالدستور"
كتب العميد الركن خالد حماده في "اللواء":
لا يكفي توصيف دعوة رئيس الجمورية العماد ميشال عون للحوار بأنها تفتقر للواقعية، سواء لجهة توقيتها أو للظروف والمعطيات السياسية التي سبقتها وجرّدتها من إمكانيات النجاح حتى الشكلية منها. الدعوة تحوّلت إلى ما يشبه التفاوض على إمكانية الحوار، هذا ما تظهره الإتصالات التي أجراها رئيس الجمهورية مع عدد من قادة الكتل السياسية. إنّ أبسط قواعد التفاوض في خضم العمليات العسكرية هو التوصّل لوقف إطلاق النار، وأبسطها في التفاوض السياسي هو إشعار المتفاوضين أنّ الربح متاح لهم، فالحوار أو التفاوض ليس إطاراً لإعلان إنتصار وهزيمة فريق آخر.
إنتقل العماد عون دون مقدّمات، من غمرة المعارك السياسية المحمومة التي يخوضها النائب جبران باسيل في كلّ الإتّجاهات،والإستفزازات غير المبرّرة لحليفه أمين عام حزب الله بحق المملكة العربية السعودية، للإعلان عن دعوته دون أي احتساب لمستوى التأزم الذي أحدثه خطاب فريقه السياسي مع الشريحة الأكبر من اللبنانيين. تحوّلت الدعوة الى ما يشبه الاستدعاء، في ظرف لا يملك فيه الرئيس - وهو أحد أطراف الصراع السياسي - القدرة على إدارة حوار وطني حقيقي، ويفتقر الى أبسط عناصر القوة، وهذا ما أدّى الى عزوف السياسيين عن قبول الدعوة.
إنّ إدراج الاستراتيجية الدفاعية كموضوع للحوار بعد استفحال الخطاب التصعيدي للحزب وسقوط الثقة الشعبية والسياسية بالعهد ليس سوى انقضاض على أهم مرتكزات وثيقة الوفاق الوطني،وتقويضاً لما ورد تحت عنوان « بسط سيادة الدولة الللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية..والإعلان عن حلّ جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم أسلحتها إلى الدولة اللبنانية...وتعزيز دور القوات المسلّحة وتحديد مهمتها بالدفاع عن الوطن». ربما أراد حزب الله من خلال التهجم على المملكة والولايات المتّحدة القول أنّ للحزب تصنيفه لأعداء لبنان وأصدقائه، وأنّ أي طاولة للحوار لجهة تناول الاستراتيجية الدفاعية وتوقيتها شأن يعود له وحده.
إنّ البديهيات المستفادة منذ توقيع تفاهم مار مخايل تؤكّد أنّ كل ما يقوم به التيار لوطني الحر لا يمكن أن يختلف عن إيقاع حزب الله، بل هو ترجمة لطريقة عمل التيار في تحقيق الأهداق المشتركة. هذا ما اتّبعه رئيس الجمهورية منذ انتخابه حين استدار على كل شروط الصفقة الرئاسية وتجاهل كل ما اتُّفق عليه في مؤتمر «سيدر» لجهة الإصلاحات السياسية والمالية والنأي بلبنان عن الصراعات الإقليمية. إنّ جلّ ما أراده حزب الله هو الإلقاء بالاستراتيجية الدفاعية على مجموعة من المتحاورين يخشى بعضهم الخروج على إرادته، فيما يمتثل البعض الآخر تحت عناوين استيعابية أثبتت عقمها.والهدف من وراء ذلك إخراج مسألة السلاح من حيّز الرفض الدولي والإقليمي والمحلي وتقديمه كمادة يتحاور حولها اللبنانيون وإنّ بوتيرة مماثلة للمفاوضات النووية. إنّ نجاح حزب الله في ذلك سيفضي إلى إدخال الاستراتيجية الدفاعية وطاولة الحوار برمّتها في متاهة الضغوط الإقليمية والتدخلات الدولية وتحويلها إلى مادة لاقتناص المكافآت على حساب لبنان، على غرار ما آلت إليه المبادرة الفرنسية.
تلاقي طموحات طهران الإقليمية عبر حزب الله طموحات العماد عون التي تتأرجح بين جمهورية تعيش تحت وصاية الحزب و«جمهورية انتقالية على طريق الجمهورية الثالثة» تعبّر عنها اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة التي أُدرجت على جدول أعمال الدعوة للحوار. طبعاً لا يمانع حزب الله اعتماد اللامركزية المالية الموسّعة بل يحفّز عليها. إنّما يعنيه ذلك عملياً، في ظلّ انهيار الدولة وشيوع الفسادوتحويل الدولة المركزية الى المكوّن الأضعف وكلّ حيّز عام إلى مشاعات يتقاسمها المسيطرون على فدرالية طوائف كرّستها قوى سياسية مهيمنة، هو تشريع لوضع اليد على المرافق الرسمية والحكومية وإسقاط المؤسسات الدستورية والقضائية والأمنية لصالح سلطات محليّة فُرضت على المجتمع. هذا ما يلاقي الإصرار الدائم على توزيع مشاريع البنية التحتية لا سيما في مجال الطاقة على قياس فدراليات مفترضة.
لا فارق بين حوار يتمّ قبل الإنتخابات النيابية أو بعدها، فمن القصور السياسي الرهان على أكثرية نيابية قادرة على التغيير عبر المؤسسات في ظلّ انتشار السلاح، إنّ فشل الأكثريات التي حققها اللبنانيون في إنتخابات 2005 و2009 لا يزال ماثلاً في الاذهان. كذلك فإنّ الرهان على أي حوار لا يتّخذ من مرتكزات وثيقة الوفاق الوطني أساساً وإطاراً لن يلبث أن يتحوّل إلى جملة من العناوين والأعراف التي تكرّس تجاوز الدستور وتقضي على مشروع الدولة، ويبدو انّ هذا النموذج ليس حكراً على لبنان.
يقدّم العراق حالياً وللمرة الثانية مثالاً في فشل المؤسسات الدستورية في تسميّة رئيس الحكومة وإنتاج السلطة بعد فشل الميليشيات والأحزاب التابعة لإيران في الإنتخابات النيابية. يرفع مقتدى الصدر زعيم الكتلة النيابية الأكبر التي أفرزتها الإنتخابات شعار «لا مكان للميليشيات في العراق، والكل سيدعم الجيش والشرطة والقوات الأمنية» مشدداً على «ضرورة تشكيل حكومة أغلبية، لا مكان فيها للطائفية والعرقية»، فيما يحذّر «الإطار التنسيقي» وهو التكتل النيابي المرتبط بإيران من نتائج تجاوز حكومات الوحدة الوطنية والإنقسام داخل الطائفة الشيعية، كما يستبق حزب الله على لسان الشيخ نعيم قاسم نتائج الإنتخابات المرتقبة فيؤكّد أنّ نتائجها لن تغيّر في الواقع القائم شيئاً.
الإستقرار مقابل انتشار السلاح وتعميم الفساد، معادلة اختبرها اللبنانيون منذ اتّفاق الدوحة ويُدفع العراقيون مجدداً لاختبارها. من بغداد الى بيروت المطلوب واحد، الإطاحة بالدستور...