ليتَ وهيهاتَ وحَبّذا
كتب الوزير السابق سجعان قزي في "النهار":
السنةُ الجديدةُ تعاقدَت مع الشمسِ ألّا تغيبَ قبلَ طلوعِ القمرِ لئلّا تَدْهـمَها الظُلمةُ ويَعبِثَ بها أهْلُ الظلامِ قبل أنْ يَرحلوا. مِثْلُنا، سنةُ 2022 تَخشى ما يَنتظرُها. اسْتَجارَت بكَوكبِ الأرضِ أن يُبطئَ دوَرانَه حولَ الشمسِ لتُبعِدَ عنها كأسَ الحلول. لكنَّ ما كتبَه الزمانُ لا يُلغيه المكان. تُطِلُّ السنةُ الميلاديّةُ مُضطَرِبةً وحَذِرةً ومشغولةَ البال. يومٌ إلى الأمام وعشرةُ أيَّامٍ إلى الوراء. السنواتُ الثلاثُ الماضيةُ أخْبرَتها عمَا حلَّ بها في لبنان وبلبنان. حَكَت لها معاناتَها علّها تُجنِّبُها قدَرًا مماثِلًا، ونَصَحْتها بأنْ تَتغلّبَ على اضطرابِها وتُقْدِمَ وتَتقدّمَ بخَطواتٍ عسكريّةٍ مُهابَةٍ لأنَّ الدَعَساتِ الناعمةَ عديمةُ التأثير.
هَـمُّ 2022 أن تؤثِّرَ هي في لبنان وتَبعَثَ فيه الحياة، لا أن يُؤثِّرَ هو فيها ويُعطّلَ فعلَ مجيئِها ومفعولَه. قيمةُ الزمنِ بحَدَثِه الجديد لا بحُدوثِه الروتينيّ. قد يكونُ رهانُ السنةِ الجديدةِ واقعيًّا إذا حَصَلت خِلالَـها الانتخاباتُ النيابيّةُ والشعبُ يُعوِّلُ عليها لإحداثِ تغييرٍ نوعيٍّ وكَمّيٍ في الطبقةِ السياسيّةِ، والانتخاباتُ الرئاسيّةُ والشعبُ يتوقّعُ أن تأتيَه برئيسٍ جديدٍ اسمًا ونهجًا وخِيارات.
رهاناتُ السنواتِ علينا ورهانُنا عليها عادةٌ سنويّةٌ مَجازيّة. السنواتُ حالةٌ زمنيّةٌ افتراضيّةٌ يَقتصِرُ نفوذُها على تغييرِ الطبيعة، بينما الشعوبُ حالةٌ إنسانيّةٌ حقيقيّةٌ تَصنعُ، عبرَ السنواتِ، التغييرَ في المجتمعات. كلُّ سنةٍ تكونُ سنةَ خيرٍ إذا مَلأَ الإنسانُ، مسؤولًا أو مواطنًا، فصولَها أعمالَ خيرٍ وإنماءٍ وإنجازاتٍ لا أخطاءَ وذنوبًا. كان يُمكن لسنواتِ 2019 و2020 و2021 أن تكونَ أجملَ سنواتِ لبنان لو قُيِّضَتْ للبنانَ حكوماتٌ صالحةٌ ومنظومةٌ سياسيّةٌ وطنيّةٌ وأخلاقيّةٌ وشعبٌ مُوحَّدُ الولاءِ للأمّةِ اللبنانيّة. وكان يُمكن لسنواتِ العهدِ الحالي السِتّ أن تَبهَرَ اللبنانيّين وتُدهِشَ العالمَ لو اتّبَع سيّدُ العهدِ النهجَ الوطنيَّ التاريخيّ، واعتمدَ الحِياد، ومَكَثَ في بيئتِه الطبيعيّةِ، وثَبَّتَ لبنانَ في بُعدَيه العربيِّ والدُوليِّ، وألفَّ حكوماتٍ قديرةً ومتضامِنة، وحالَ دونَ هيمنةِ حزبِ الله على القرارِ الوطنيِّ، وأجرى الإصلاحاتِ الضروريّةَ، وأقرَّ اللامركزيّةَ الموسَّعةَ في حينِها، ونَفّذَ القراراتِ الدُوليّةَ، ولاقى المجتمعَ الدُوَليَّ في مبادراتِه الإيجابيّةِ تجاهَنا، ولو كافَح الأحقادَ الجيّاشَة والفَساد، وشيّدَ واحةَ المحبةِّ والشراكةِ والحِوار حين كان ممكنًا بعدُ الحِوار.
لو فَعل العهدُ ذلك لما كنا نُعيرُ اهتمامًا لسنةٍ تَرحلُ ولأخُرى تُقبِلُ. كنا نَنتظرُ المهاجِرين يعودون، والسيّاحَ يَؤمُّونَ ربوعَنا، والاقتصادَ يَزدهرُ، والصناعةَ تُنتجُ، والتجارةَ تَنتعِشُ، والليرةَ تَرتفعُ، والاسْتثماراتِ تتزاحمُ، والعربَ يتوافَدون إلى ديارِنا، والمؤسّساتِ الدُوليّةَ والأمميّةَ تَستقرُّ في عاصمتِنا. لو فَعل العهدُ ذلك لكُنّا نرى الأجيالَ الجديدةَ تَجِدُ عَملًا وتُساهمُ في نهضةِ لبنان، والناسَ في الشوارعِ تَفرحُ وفي المتاجرِ تَشتري ما تحتاجُ وما تَشتهي، والشعبَ يَستعيدُ بحبوحتَه الماليّة، ولكان الرئيسُ اسْتغنى الإثنينَ الماضي عن خِطابِ "أنا أتّهم".
كلُّ ذلك ليس حُلمًا ولا خَيالًا وليس عَصِيًّا على التحقيق. هكذا كان لبنانُ قبلَ أن يتآمَروا عليه ويَنقلِبوا على استقلالِه واستقرارِه. هكذا كان لبنانُ قبلَ أن يَبتليَ بسلطةٍ وحكوماتٍ وقِوى سياسيّةٍ وعسكريّةٍ نَذَرت جِهادَها لهدمِ ما بُنيَ. غيرُ صحيح أنَّ الازدهارَ السابقَ كان اصطناعيًّا. الاصطناعيُّ هو أزَماتُنا. غالِبيّةُ أزَماتِنا ومآسينا افتَعلَتها فئاتٌ رَهنَت ضميرَها الوطنيَّ لمشاريعِ دولٍ إقليميّةٍ ودُوليّة. فلا دولةُ لبنانَ فقيرةً ولا شعَبُه متسَوِّلًا. احتَجزوا ثرَواتِه ووضَعوه في الإقامةِ الجبْريّة. زَرعوا فيه شعوبًا ودولًا ونَزعوا عنه شعبَه ودولتَه. حوّلوه من بلدٍ يُصدِّرُ السلامَ إلى بلدٍ يَستورِدُ العنفَ ويُعمِّمُه. ولأنَّ ذلك حصلَ ولا يزالُ يَحصُلُ بغطاءِ الشرعيّة، فلا ثقةَ بها. لقد تحالفَ العهدُ الحاليُّ مع الّذين عَطّلوه وأبْعدَ عنه الّذين كانوا يُريدون له الخير. تَجاهلَ جميعَ نصائحِ المحبّين واسْترسَلَ في سياسةٍ أدَّت إلى الانهيارِ الحالي. نأى بنفسِه عن كل فُرصِ الإنقاذِ في سنواتِه السابقةِ واعتَبر أنّه على حقٍّ والآخَرين على خَطأ.
خِطابُ رئيسِ الجمهوريّةِ ما كان خِطابَ نهايةِ السنة، بل خِطابَ نهايةِ العهد. انتظَر المواطنون منه أجوبةً عن مآسيهم فسَمِعوا أسئلةً عن عَجْزِه، انتظروا اعتذارًا عمّا حَصلَ فسَمِعوا منه اتّهامات. انتظروا منه فكَّ تحالُفِه مع حزبِ الله وحَصْرَ السلاحِ بالجيشِ اللبنانيِّ فأبقى سلاحَ حزبِ الله في إطارِ استراتيجيّةٍ دفاعيّةٍ مزعومةٍ وأحْيا ثلاثيّةَ "الجيشِ والشعبِ والمقاومة". انتظروا منه أن يُحدِّدَ مسؤوليّةَ مشروعِ حزبِ الله في الانهيارِ فوزَّعها على أهلِ السياسةِ مجتمِعين وعلى القضاءِ ووزارةِ المالِ وحاكمِ مصرفِ لبنان وعلى المؤامرةِ الكونيّةِ وحَيّدَ نفسَه وتيّارَه عن الجماعةِ السياسيّةِ وعن المسؤوليّة. مذهِلٌ أنْ يَصِف رئيسُ الجُمهوريّةِ التشكيلاتِ القضائيّةَ بالفضيحةِ بينما الفضيحةُ هي عدمُ توقيعِه عليها ولو أنّها ليست مثاليّة.
ليتَ رئيسَ الجُمهوريّةِ قادرٌ بعدُ على تحقيقِ بعضِ الاقتراحاتِ الواردةِ في خِطابه. ما عادَ رئيسُ الجُمهورية قادرًا على القيامِ بإصلاحاتٍ لأنَّ صلاحيّاتِه السياسيّةَ نَفَدَ تاريخُها، وصلاحيّاتِه الدستوريّةَ المحدودةَ لا تخوِّلُه تنفيذَ ما يُقرِّر. لم يَعُد يَملِكُ نفوذًا على الحكومةِ ولا على مجلسِ النوابِ ولا على الحياةِ السياسيّةِ في البلاد. أنّى له أن يَضعَ استراتيجيّةً دفاعيّةً وهو أعجزُ من أن يَنزعَ صورةَ قاسم سليماني من أمام المطار، واجِهةِ لبنان؟ كلُّ الجماعةِ الحاكمةِ في السلطتَين التنفيذيّةِ والتشريعيّةِ عاجزةٌ عن تحقيقِ أيِّ إنجازٍ في الأشهرِ العشرةِ الباقيةِ من العهدِ. هيهاتِ أن تَتمكّنَ من إجراءِ الانتخابات. القِوى السياسيّةُ، المعارِضَةُ منها والمشاركةُ في الحكمِ والحكومةِ، وهي تعتبرُ الرئيسَ خصمًا سياسيًّا ومنافسًا في الانتخابات، غيرُ راغبةٍ في تقديمِ هدايا له مع نهايةِ عهدِه، خصوصًا أنه يَدعوها إلى الحوارِ وقد هاجَمها دون استثناءٍ في خِطابه.
إن الحوارَ في حضورِ السلاحِ حوارٌ غيرُ متكافئٍ وقد يؤدّي إلى المؤتمرِ التأسيسيِّ الذي يَطمحُ إليه حزبُ الله كي يغيِّرَ النظامَ اللبنانيَّ لمصلحتِه. وأصلًا: لـمَ حوارٌ جديد؟ فلنبدأ بتنفيذِ مقرّراتِ الحواراتِ السابقةِ من 2006 إلى 2012 وبتطبيق "إعلان بعبدا". ولِـمَ حوارٌ جَماعيّ؟ يكفي أن يَتحاورَ رئيسُ الجُمهوريّةِ والسيدُ حسن نصرالله حولَ مصيرِ السلاحِ، وبَعدَها لكلِّ نقصٍ حوار.
مَلَّ الشعبُ اللبنانيُّ جميعَ الاقتراحاتِ التي مرَّ عليها الزمنُ، وضَجِرَ من التبريراتِ المتأخِّرة، وسَئِمَ الخطاباتِ والمؤتمراتِ الصحفيّةِ التي لا تؤمِّنُ له رغيفًا ودواءً وكرامة. ما مصيرُ بلدٍ هاجِسُ رئيسِ جُمهوريّتِه إنقاذُ عهدِه، ورئيسِ مجلسِ وزرائِه إنقاذُ حكومتِه، فيما يجب أن يكونَ هاجِسُهما إنقاذَ لبنان؟