التراجع خطوة إلى الوراء ... هل يكفي
كتب العميد الركن خالد حمادة في "اللواء":
الطيونة محطة جديدة تنضم الى مسلسل السقوط المتوالي فصولاً لمنظومة الحكم في لبنان. قد يختلف المشهد بدمويّته عن مواجهات سابقة عرفتها شوارع عدة في العاصمة، أو قد تتساوى دمويّته مع ما حدث في خلدة أو في قبرشمون، ولكنّ الخلفيّة واحدة والعقل الإلغائي واحد والإستفزاز السياسي واحد، في ظلّ فوقيّة وتعالٍ غني عن التوصيف، وإمعان في تطبيق قواعد اشتباك جديدة على الدولة برمّتها حتى لو اقتضى ذلك تأنيب الحلفاء وربما تأديبهمكما حصل في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة في بعبدا.
عكست المنازلة مع القضاء في جريمة تفجير مرفأ بيروت ــ بوجهيّها المتماديين الميداني والسياسي ــ حجم هذا الملف في الوجدان الشعبي اللبناني ومدى الإلتفاف الشعبي والسياسي حول حماية مسار التحقيق. مقاربات الفرقاء السياسيين للموضوع أتت من زاويا مختلفة مما أظهر تمايزاً واضحاَ في النظر إليه، وبما يعكس استحالة لدى كلّ من هذه القوى مواجهة جمهورها بموقف يتماهى مع موقف حزب الله منه. لقد أضحى التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت قضية وطنية بامتياز بأبعاد سياسية وأمنية وقضائية وإنتخابية، وهو سيكتسب بُعداً دولياً لتعذر فصله عن ملف الإصلاحات الذي يطالب منه المجتمع الدولي لإنقاذ لبنان من أزمته الإقتصادية،فالحكومة العاجزة عن حماية القضاء هي عاجزة حكماً عن القيام بالإصلاحات ووقف الفساد وإجراء انتخابات حرّة ونزيهة.
لقد أثبتت المواقف المعلنة بعد اشتباكات الطيونة بأنّ التحالفات السياسية داخل محوّر حزب الله وداخل الحكومة مهدّدة بالإنكسار أو هي في طريقها إلى ذلك. لا يمكن المرور على ما حصل في جلسة مجلس الوزراء بين وزير الثقافة ورئيس الجمهورية مرور الكرام، كذلك لا يمكن إلا التوقف عند مواقف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الرافضة بأي شكل من الأشكال تدخّل الحكومة في التحقيق أو في محاولة إقصاء القاضي أو دفعه للإعتذار. مقابل كلّ ذلك بدا أنّ الإتّهام الذي أطلقه حزب الله للقوات اللبنانية بإطلاق النار على المتظاهرين قد تحوّل مادة للإستثمار السياسي ترجمها الوزير جبران باسيل في مؤتمره الصحفي بإنتاج مادة إنتخابية تستعيد الصراع على النفوذ بين القوات اللبنانية والجيش ضمن ما كان يعرف بالمنطقة الشرقية. باسيل الذي ماشى حزب الله في إتهام القوات بارتكاب الجريمة لم يكن له أي موقف سلبي من القاضي بيطار وأصرّ على المضي بالتحقيق، وفي الوقت عينه لم يخبرنا لماذا لم يسمح رئيس الجمهورية بمثول مدير عام أمن الدولة أمام قاضي التحقيق. من جهة أخرى فإنّ حزب الله غير قادر على المضي في تعريض تحالفه السياسي والإنتخابي مع رئيس الجمهورية الذي لا يستطيع المغامرة أكثر برصيده المسيحي المتداعي نظراً لما تعنيه جريمة تفجير المرفأ للبنانيين عموماً وللمسيحيين خصوصاً.
المغامرة التي قادها حزب الله بوجه القاضي طارق بيطار لم تكن شروط نجاحها متوفرة، ربما لم يقدّر الحزب أنّ المواجهات في الداخل قد أضحت دون أُفق ليس بسبب كفاءة من يريد الحزب مواجهتهم، بل لاستحالة تحقيق أي مكسب سياسي يضاف الى ما يحوزه. يبدو الحزب متعطشاً إلى ما يتعدّى إدراكه بالنصوص والأعراف بعد سيطرته على الأكثرية النيابية والحكومة والأمن والعلاقات الخارجية، وكان آخر العنقود ريادة الإقتصاد العابر للحدود في مجال الطاقة وسط صمت دولي، وفوق كلّ ذلك صناعة الرؤساء في كلّ المؤسسات الدستورية، وقد أفضى ذلك إلى تعليق الحياة السياسية في لبنان. فهل ما يريده الحزب هو ولاية على قياس لبنان تنهل من تجريه المرشد بما يتجاوز كلّ النصوص الوضعيّة من دستور وقوانين بحيث يعود له الفصل في محرّمات السياسة والقضاء والشأن العام ورغبته في ذلك لا ترد.
ما يتطلبه تحرير الحياة السياسية واختراق الأفق المسدود للأزمة هو التراجع خطوة وربما أكثر الى الوراء، فربما يسهم ذلك في توضيح الرؤيا بشكل أفضل وتجنّب الإنفجار. يقتضي أولاً الركون الى المؤسسات الأمنية والقضائية لجلاء حقيقة ما جرى في الطيونة وتقديم المسؤولين عنها للعدالة، ولكن ذلك لا يعني أنّ استباحة الساحات للإستعراضات المسلّحة حيناً وإطلاق الهتافات المذهبية قد أضحى تقليداً معتمداً للتعبير عن الإختلاف الديني ــ ولا أقول الثقافي ــ الذي يحميه الدستور. إنّ الدرس المستقى مما جرى في الطيونة وما سبقها من مواجهات في الشارع هو استحالة الإستمرار في الإستفزاز السياسي، والإمعان في تخوين المؤسسات وحماية القفز فوق القانون والدستور واستباحة كلّ ما يمتّ للسيادة الوطنية والمساواة بين المواطنين.
حزب الله مدعو قبل سواه للتراجع أكثر من خطوة إلى الوراء وأخذ العِبر من نتائج الإستفزاز السياسي في مجتمع متعدّد تستشعر مكوناته أزمات وجودية حقيقية، بحيث لم يعد أمامها سوى الإنكفاء والتحصّن داخل مجتمعاتها البدائية وإعلان القطيعة مع الآخر. هذا ما تفسره الدعوات المتصاعدة نحو الفدرالية أو الذهاب نحو المواجهة كعمل لا بدّ منه لانعدام إمكانية التراجع لدى الفريق الآخر، مما يسقط في كليّ الخيارين مفهوميّ الدولة والمواطنة. حزب الله مدعو كذلك لإعادة النظر بمشروع المقاومة، كمبرّر لسلاحه ولخياراته السياسيةلاستحالة الدفاع عن هذا المشروع كخيار يستحق أن تسقط لأجله الدولة والأكثريات المنتخبة وكلّ نقاط القوة في المجتمع كالجامعات والمستشفيات والمؤسسات الإقتصادية،بحيث يصبح تجويع الناس والقضاء على مستقبلهم وتبرير الدفاع عن الفاسدين والمرتكبين من مستلزمات المقاومة.
أمام كلّ ذلك ألا يستحق لبنان واللبنانيون التراجع خطوة إلى الوراء، وهل تكفي خطوة واحدة...