رحم الله فؤاد شهاب...
كتب أديب ابي عقل
المركزية- في ٢٣ أيلول ١٩٥٨، تسلّم اللواء فؤاد شهاب رئاسة الجمهورية اللبنانية بعد حوادث دامية، نتيجة الخلاف بين اللبنانيين على خلفية تأييد الرئيس كميل شمعون حلف بغداد في وجه المد الناصري الذي اجتاح غالبية الدول العربية، عبر طروحات دغدغت عواطف الشعوب العربية، فانتفض ضباط على أنظمتهم، وأطاحوا حكاماً وملوكاً ورؤساء وأقاموا أنظمة استغلَّت الشعارات الناصرية، لتحكم قبضتها في الداخل وترسّخ حكمها.
في هذا الجو، قرأ الرئيس شهاب الواقع الجيوسياسي الجديد في المنطقة، وأحاط نفسه بمجموعة مساعدين يحسنون التعاطي بحكمة وروية مع الوضع المستجد، ورسموا معه خريطة طريق للحكم طوال الولاية.
وبما ان الداخل اللبناني بقواه الأساسية، يسير على الايقاع الإقليمي الدولي، حيث أتى التوافق الأميركي الناصري بشهاب رئيساً، كان على هذا الرئيس أن يبدأ من الموقع الفاعل والمؤثر الذي جاء به، والجميع يذكرون "اجتماع الخيمة" الشهير مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر على الحدود اللبنانية السورية، حيث نجح الشهابي في إقناع نظيره بضرورة المساعدة في تحييد لبنان عن المحاور وصراعاتها، لأن الحاجة ملحّة وأساسية إلى بناء دولة المؤسسات، في موازاة علاقات لبنانية خارجية متوازنة، وعلى مسافة واحدة من الجميع.
وكما مع العرب أرسى الرئيس شهاب علاقات متوازنة مع القوى الدولية ذات التأثير على الساحة المحلية، مع ميل إلى فرنسا التي تأثر بها تاريخيا وكان على رأسها في حينه الجنرال شارل ديغول، فضلاً عن ان الدستور اللبناني مستوحىً من دستور الجمهورية الثالثة، قبل إدخال التعديلات عليه بفعل تطور الأوضاع وتغيّر موازين القوى.
واستذكار فؤاد شهاب اليوم، هو استحضار نمط حكم وطريقة إدارة بلد تعدّدي، ترتكز إلى الدستور، الذي كان يسميه "الكتاب". وعبارته الشهيرة عندما يجتمع مع معاونيه لاتخاذ قرارٍ ما، "أيش بيقول الكتاب"، يردّدها الشهابيون واللبنانيون إلى اليوم. ذلك انها تعكس بعمق ووجدان وطنيين الاحترام الشديد للدستور، بغية بناء الدولة على خلفية العمل بهدي القانون لتكون دولة إنماء وازدهار واستقرار.
ورفض شهاب تجديد ولايته منعاً للمسّ بالدستور. ورفضُه كذلك اعادة الترشح في العام ١٩٧٠ لقطع الطريق على مَن سمَّاهم "اكلة الجبنة"، أعطى دليلاً دامغاً على ان المعدن الوطني للرجل يختلف عن غيره ممن سبقوه وبعض الذين تولّوا الرئاسة لاحقاً، حيث تبيّن ان من اتّبع نهج التوازن في الداخل والخارج، نجح في تمرير ولايته باحترام داخلي وخارجي، واستقرار اجتماعي نفتقده اليوم في شتى المجالات.
ولعلّ أبرز العلامات الفارقة في عهد شهاب، ان فريق عمله كان خالياً من ذوي القربى، بل كان يضمّ أشخاصاً مشهود لهم في مجال عملهم، وحذا حذوه في ذلك الرئيسان الياس سركيس وميشال سليمان، اللذان لم يضمّ فريق عملهما أحداً من الأقرباء أو ذوي نسب.
واستذكار الرئيس شهاب، تبرّره الحاجة إلى مثله اليوم، لأن وجوده ما كان سمح للبلاد بأن تنزلق على هذا النحو، وهو كان تفاهم مع القوى الفاعلة والمؤثرة في الداخل اللبناني وعليه، على ضرورة تحييد لبنان عن جعله ساحة تبادل الرسائل الإقليمية، ولا ساحة تصفية حسابات الآخرين على أرضنا، لينصرف إلى الإصلاح وإعادة بناء مؤسسات الدولة على الطريقة الشهابية، واستكمال بناء ما ينقصنا من مؤسسات تحاكي الواقع واحتياجاته وتتطلّع إلى المستقبل الذي يستحقه اللبنانيون، التوّاقون إلى العيش بحرية وكرامة، حيث لا ذُلّ ولا استباحة للدستور والقانون.
واستذكار الرئيس شهاب، هو استحضار لصورة نمطية لطراز حكم وطني، قائم على التفاهم مع المكوّنات اللبنانية، بهدوء واعتدال وتدير زوايا الخلافات والتباينات التي تحصل، على قاعدة الاحترام الوجودي للآخرين، على رغم الصراع السياسي المشروع والمطلوب لميزان الديموقراطية، وهو الذي انطلق عهده بشعار "لا غالب ولا مغلوب"، وكان اول من اعتمد الشراكة الحقيقية من خلال المناصفة في الحكومة، التي يُفترض أن تبقى قائمة، لأنها تشكل كفّتي الميزان اللبناني الكياني والسياسي والاجتماعي.
واستذكار الرئيس شهاب، تذكير بما يجب ان يكون عليه مسار لبنان حكماً وشعباً ومؤسسات، ورؤية وطنية، وحكمة وروية، كي لا يكون ما بناه الآباء المؤسّسون للدولة ذهب هدراً، ولا يعود أمامنا سوى ترداد عبارات الرحمة لأرواحهم، والدعاء إلى الرب أن يهدي من يتولى زمام أمورنا سوي السبيل.