هل تحل الفدرالية مشاكل لبنان؟
أوضح السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير، في الذكرى الثلاثين لانطلاقة المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق التابع لـ»حزب الله» أنّ هذا المركز البحثي لا يعمل لمصلحة حزبه فقط، بل لصالح كل دول محور الممانعة، التي تستأنس بنتاجه العلمي والاستراتيجي على السواء في عملية اتخاذ قراراتها التكتية والاستراتيجية. فالمركز «أممي» وفق ما قاله السيد نصرالله، وهو ينتمي إلى «الأممية الجديدة» الناشئة من الصين إلى فنزويلا، مروراً بروسيا وايران وغيرها.
وكما أنّ المركز البحثي أممي هو، وتُساق عليه المواصفات الأممية التي تساق على كل منتجات «حزب الله»، كذلك هي المقاربة لدور لبنان ووظيفته في هذا المشروع الأممي الناشئ. في الحقيقة بيّن السيد نصرالله أنّ لبنان مدعو إلى مقاربة واقعه بطريقة موضوعية على اعتبار أنه «لن تكون هناك تسوية في المنطقة، ويجب بناء الرؤية الاقتصادية على أن لا استقرار في ظل الصراع مع العدو الإسرائيلي (...) و أنه يجب عدم بناء رؤية اقتصادية وفق حسابات سياسية خاطئة، بما فيها أنّه ستكون هناك تسوية في المنطقة»؛ ودعا نصر الله اللبنانيين «إلى مراقبة الوضع الاقتصادي في مصر، الدولة الأولى التي وقعت اتفاق سلام مع إسرائيل، وتسأل «هل لبنان أهم لأميركا منها؟»؛ في إشارة إلى ضلال من يراهنون على المحور الآخر المناهض لمحور الممانعة، الولايات المتحدة الاميركية والغرب وبلدان الخليج العربي ومصر، وعلى دوره في «إنهاض لبنان» من كبوته.
ما لم يقله السيد بالمباشر هو أنّ في المنطقة بنظره مشروعين: الأول، هو مشروع الممانعة، الذي يعتبر أن لا تسوية للصراع مع اسرائيل، وأنّ المواجهة معها مفتوحة «إلى يوم الدين»، وأنّ لهذا المشروع «آفاق» اقتصادية وثقافية عدّد بعضاً منها، ودعا إلى الالتحاق به؛ فيما المشروع الثاني، هو مشروع محصور في سياق «التطبيع» مع اسرائيل وتوقيع السلام معها، والخضوع غير المشروط للسياسات الأميركية ومن يحالفها في المنطقة، وليس له أية آفاق اقتصادية وثقافية واعدة، ودعا إلى الانكفاء عن التعامل معه. ولبنان بين هذين المشروعين، «حجر بين شاقوفين».
الصراع على لبنان
فما قاله السيد نصرالله يؤكد من دون أي لبس أنّ جوهر الصراع في لبنان، لا بل الصراع على لبنان، هو صراع على موقع لبنان السياسي في مشاريع المنطقة التي حدّدها السيد نصرالله، والمحتدمة على الصفيح الاقليمي والدولي على السواء. يريدنا نصر الله أن نقتنع وأن نصدق صاغرين أنّ قضية انتخاب رئيس للجمهورية مثلاً هي ذات طبيعة داخلية فيما يدعو، وهو يفنّد دفتر شروط انتخابه، إلى مراعاة شروط حلف الممانعة، أي حماية المقاومة ومكتسباتها، الجرأة على مواجهة الولايات المتحدة الاميركية ومصالحها في المنطقة، متابعة مواجهة السنة والعرب على السواء ومشروعهم العربي حتى قيام الساعة و»الشجاعة» على التوجه شرقاً وقبول الهبات الاقتصادية التي تعرضها ايران والصين وروسيا على لبنان.
أما وقد أوضح السيد نصرالله كل ذلك فهل ما زال بين اللبنانيين من يعتقد أنّ جوهر الازمة اللبنانية وأسبابها داخلي؟ هل ما زال هنالك من لا يعتقد أنّ حل هذه الازمة المستعصية وغير المسبوقة يتصل بخيارات كبرى في السياسة على مستوى الوظيفة والدور في الفضاء الاقليمي؟ هل هناك من يعتقد أنّ الحل، وبعد العرض الأممي للسيد نصرالله، هو مكاني بالمعنى الجغرافي (أي أن حدوده لبنان ليس إلّا) ويتصل بطبيعة النظام السياسي وآليات تشغيله؟
وما أتفق عليه مع السيد نصرالله في خطابه الاخير يتصل «بالتبسيط السياسي» الذي تحدث عنه، والذي ينطبق عليه وعلى معارضيه اللبنانيين على السواء.
أبرز تبسيط عرض له السيد نصرالله في خطابه الأخير إتصل بوصول رئيس للجمهورية، أعدّ له السيد برنامج عمله «الأممي» سلفاً، وعرضتُ له أعلاه، على أن يكون هذا الرئيس «شجاعاً» لينقذ البلاد؛ وكأنه لم يكن للسيد نصرالله ما أراد حين كان العماد عون رئيساً للجمهورية منذ العام 2016 حتى العام 2022. ألم يكن العماد عون شجاعاً كفاية ليدعمه السيد وحزبه؟ فما الذي منع سماحتك من المضي قدماً في «إنقاذ» البلاد في ظل رئيس قلتم عنه «إنه جبل» في المعنى «الوطني»؟ وما الذي منعكم من مؤازرته في مشروع بناء الدولة وقد قلتم عنه كذلك إنه «ممانع بـ 24 قيراطاً»؟ هل أخلّ العماد عون في التزاماته تجاه محور الممانعة لينكفئ الحزب عن دعمه في ما أسماه الرئيس عون «مسيرة بناء الدولة»؟
معالم التبسيط
أما أبرز معالم التبسيط التي يعتمدها بعض معارضي السيد نصرالله فتقوم على الانفعال وطرح الفدرالية كحل للأزمة اللبنانية الحالية. فهل تحلّ اللامركزية الادارية الموسّعة أو الفدرالية مثلاً أزمة لبنان؟ هل تحل هذه المقترحات تموضع لبنان في هذا الصراع «الأممي» كما وصّفه السيد نصرالله؟ وهل يستطيع مكوّن لبناني واحد، مهما كبر شأنه، حسم هذا الصراع والفصل في موضوع بهذا الحجم بمعزل عن المكونات اللبنانية الاخرى ومن دون التعاون معها؟
لقد جاء الكلام عن اللامركزية الادارية الموسّعة والفدرالية في المرحلة الأخيرة في سياق الكلام عن إعادة النظر بالنظام السياسي اللبناني على خلفية عجزه عن إنتاج التسويات العقلانية للأزمة اللبنانية؛ وجاء ذلك على لسان قيادات ومجموعات نخبوية وازنة، مسيحية في غالبيتها، قالت مباشرة أو غير مباشرة، إنّ التغيير السياسي القادر على حل الأزمة يقوم إما على اعتماد اللامركزية الادارية الموسعة بكل مستوياتها وإمّا على اعتماد الفدرالية أو ما يشابهها من أنظمة كحل للأزمة اللبنانية.
السنّة... أول الفدراليين
إنصافاً، لم يكن المسيحيون في لبنان أول من طرح الفدرالية كحل لأزمة لبنان الهوياتية، على عكس ما يعتقده كثر، بل كان المسلمون اللبنانيون أنفسهم أول من طرح هذا الحل في العام 1925 من خلال النائبين السنيّين البيروتيين عمر الداعوق وعمر بيهم، حين طالبا، عند إنشاء لجنة إعداد الدستور أن يتم التفاوض مع زعماء المسلمين، الرافضين للتعامل مع تلك اللجنة آنذاك، في شأن مطلبهم بتقسيم لبنان إلى فدراليتين: الأولى مؤلفة من جبل لبنان، والثانية من المناطق التي ضمت إلى جبل لبنان في إطار لبنان الكبير.
وما فعله المسلمون في العام 1925وثابروا عليه حتى العام 1943، فعله المسيحيون منذ ستينات القرن الماضي وهم يثابرون عليه. فمرض الانفصال عن لبنان الكبير، أو لنقل مرض الفدرلة اللبنانية، أصاب جميع مكونات لبنان الطائفية وهو معمّم عليها من دون استثناء. ويخضع تمظهر هذا المرض المجتمعي، في الشخصية الجمعية لهذه الطائفة أو تلك وفي خطابها السياسي، لتنامي مخاوف طائفة معينة من «ابتلاع» طائفة أخرى لها.
وتدلّل التجربة على أنّ عوراض هذا المرض كانت تتمظهر كلما تحكّمت في البلاد قوى ذات طابع طائفي وكسرت قاعدة التوازن الوطني مع مكونات طائفية أخرى. فيما كانت عوارض هذا المرض العضال تتراجع كلما كانت قاعدة الحكم هي التوازن الوطني، الذي تطوّعت لضمانه قوى لبنانية من كل الطوائف والمشارب.
وما هو مؤكد وحتمي على هذا الصعيد أنّ طرح الفدرالية مثلا يتصل بتشخيص «غير سوي» لأسباب الأزمات التي عصفت بلبنان. فيبدو أنّ اللبنانيين يختلفون في تشخيص أزماتهم وهذا ما يجعلهم يختلفون كذلك في اجتراح حلول لها.
فالذين يطرحون مثلاً الفدرالية اليوم حلاّ للازمة اللبنانية يعتقدون من دون أدنى شك أن الفدرالية قادرة على حسم موقع لبنان في الصراع الاقليمي المحتدم، وبالتالي حل أزمة السلاح ومنطق الدويلة الذي يفرضه حامل السلاح على جميع اللبنانيين من دون استثناء؛ وهذا برأيي نوع من التبسيط.
فكيف يمكن للفدرالية أن تحلّ موضوع السلاح خارج سيطرة الدولة، وهو «أمّ الأزمة» اللبنانية الحالية وأبوها؟ فإذا كان السلاح وحصره في يد الدولة، أمركزية كانت أم لا مركزية، هو المشكلة فهل تحلّ الفدرالية، في حال تطبيقها، هذا الموضوع على كل الأراضي اللبنانية، أم تجعله حصرياً بإحدى منتجات الفدرالية، عنيت بها المنطقة التي يسيطر عليها من يمتلك السلاح ويتحكم به؟
وبيت القصيد على هذا الصعيد هو التالي: هل تحلّ الفدرالية كيفية مقاربة الصراع مع اسرائيل و»مقاومة مشاريعها في لبنان» وانقسام اللبنانيين في هذا الشأن؟
كذلك، كيف تحل الفدرالية المشكلة الاقتصادية في لبنان؟ هل ترفع «الحصار» المفروض على لبنان وفق ما صرّح به السيد نصرالله؟ وهل الحل الفدرالي يعالج الأزمة الاقتصادية والتي قاربها السيد نصر الله في خطابه الاخير وحدّد وجهة نظره فيها؟
الا تقضي الفدرالية على منطق التوازن الوطني وتكسر مبدأ «المناصفة» الذي نتج عن اتفاق الطائف؟ ألا تعطي الفدرلة «حزب الله» القدرة على وضع اليد على غالبية المكونات اللبنانية الأخرى، عنيت بهم الشيعة المعارضين لمشروعه والسنة والدروز، وتغرق تلك المناطق في صراعات غير مسبوقة؟ ألا تساهم الفدرالية في إطباق «حزب الله» على الدولة المفدرلة الموعودة بكل مجالاتها وينحسر بذلك دور المسيحيين فيها في المناطق «المقتطعة لهم» ليس إلاّ؟ هل تحسم الفدرالية موضوع السياسة الخارجية للبنان، ودوره في المنطقة، ووظيفته الاقتصادية والثقافية فيها على السواء؟
كيف تعالج الفدرالية إشكالية الانتشار الطائفي على مجمل المساحة اللبنانية وبخاصة الانتشار المسيحي الذي يتوزع من عندقت إلى رميش في 936 من أصل 1463 قرية وبلدة ومدينة في لبنان؟
القيمة المضافة
ما هي القيمة المضافة التي تقدمها الفدرالية في موضوع مكافحة الفساد؟ ولائحة الاسئلة تطول وتطول.
لقد أردت من خلال هذه المقالة فتح النقاش الصريح في شأن هذه الاشكاليات الخطيرة واستبيان آراء من يؤيدون هذه الطروحات والذين يعارضونها. أفتتح نقاشاً ولا أدعي أنني أمتلك إجابات شاملة على كل التساؤلات التي عرضت لها. غير أنني على ثقة بأنّ الذين يريدون تغيير المسار السياسي والاهتراء الوطني الذي أنتجته سياسة السلاح ومنطق «الدويلة» مدعوون إلى التفكّر بمنطق وطني يجمع اللبنانيين تحت منطق التوازن الوطني، ويُسائل هؤلاء في شأن دور لبنان وموقعه في المشاريع التي تتنازع الاقليم إستناداً إلى مصالح لبنان واستقراره. فالقضية هي قضية خيارات كبرى وفق ما قاله السيد نصرالله وليس أقل من ذلك.
طانيوس شهوان - نداء الوطن