هل تسقط الدولة الأبويّة في لبنان
في خضم الضياع الذي يعيشه الوسط السياسي في لبنان ومعه من اللبنانيون من لا يزال يأمل أنّ المراوحة المستمرة قد تؤدي إلى إنفراج ما في الأفق، تبدو حالة الإنكار والتجاهل هي المهيمنة على المنهجية التي تدار بها الأزمة الرئاسية، فكلّ المحاولات التي تُبذل هي لتعبئة الوقت اعتقاداً أنّ فشل المجلس هو أفضل من عدم إجتماعه.
لا يأخذ المجلس النيابي، وهو المؤسسة الدستورية المسؤولة عن إنتاج السلطة، بعين الإعتبار أنّ المقاربات التي اعتُمدت سابقاً للإلتفاف على الأزمات، سواء الدستورية أو غيرها، قد فقدت مصداقيتها ونجاحها بفعل تبدّل الظروف وتمرسّ اللبنانيين ـــ ومنهم النواب الذين كانوا يخضعون للإملاءات ـــ بالتعايش مع الأزمات، وقناعتهم بعدم جدواها في التوصّل الى حلول حقيقية. لقد هرمت كلّ المقاربات السابقة وهرم معها أصحابها من أركان النظام الأبوي Paternalism)) الذي أُديرت بواسطته الدولة، منذ اتُّخذ القرار، في ظلّ الوصاية السورية، بتجاوز الدستور وإختلاق جملة من الأعراف والأُطر لإدارة البلاد في الإقتصاد والسياسة والعلاقات الخارجية والأمن والدفاع على السواء.
مذاك الوقت نجح أركان الدولة الأبويّة في إيهام اللبنانيين بأنهم لا يستطيعون تقرير مصالحهم إلا في إطار نظام سياسي بُنيّ خارج الدستور، وقد تمّ دائماً إيجاد الظروف لتبرير استمرار هذه الأبوية باستحضار مسألة الدفاع عن المكتسبات والحقوق للجماعة الطائفية في مواجهة الطوائف الأخرى، بما يجعل المواطن الفرد يستشعر الحاجة للحماية في كنف جماعته وأبويّة زعيمه. هذا ما حال دون قيام مؤسسات المجتمع المدني أو سهّل اختراقها وتعطيل دورها، وهذا ما أدى إلى وضع النقابات والسلطات المحلية المنتخبة والتشكلات السياسية الناشئة ــ وربما عن اقتناع ـــ في خدمة السلطة ورهن إشارتها.
ومع تقادم الزمن تطورت أبويّة النظام في لبنان ليعدو نظاماً أبويّاً متعدّد الرؤوس بحكم توزّع ميادين السيطرة في حياة اللبنانيين على أركانه. فأبويّة الدفاع عن لبنان وتحرير أرضه تعود لحزب الله دون سواه ولا تُبحث إلا في كنفه، وأبويّة مستمرة للطاقة والمياه للوزير جبران باسيل حتى لو عمت العتمة أرجاء لبنان وفرغت السدود من المياه، وأبويّة للصحة لا تخضع للمساءلة حتى لو اختفت عائدات التلقيح لوباء كورونا، وأبويّات متعدّدة في وزارات المالية والأشغال والخارجية وشراكات بين أركان النظام الأبوي في المقالع والكسارات والمجالس المتفرقة. هذه الأبويّة التي أثقلت كاهل الدولة بهمومها وموجباتها الإقتصادية بشكل خاص مع ازدياد تكلفة ظلها الأبوي وحافظت دائماً على صلاتها بأبويّة إقليمية، هي من تعطل اليوم السلطة الدستورية والدستور وتمنع انتخاب رئيس للجمهورية.
أبويّة الرئيس نبيه بري للبرلمان دفعته لإجراء مجموعة من الإتصالات مع الكتل النيابية للتشاور خلافاً للمواد 49 و73 و75 من الدستور بغيّة الوصول الى مرشح توافقي يصار الى تعيينه بدل انتخابه ديمقراطياً، وأبويّة حزب الله لمسألة الدفاع عن لبنان يعبّر عنها بمقاطعة جلسة الإنتخاب وبالإمتناع عن تسميّة مرشح لا يخضع لمعاييره في نقاش الاستراتيجية الدفاعية الوطنية وبما يضمن استمرار حرية الحركة لسلاحه. وفي مشهد آخر للنظام الأبوي تعطّل كتل أخرى النصاب بحجة الحق بأبويّة تفرضها على مرشحي الرئاسة كشروط مسبقة للإنتخاب، ناهيك بالأبويّة التي فُرضت على موقع رئاسة الحكومة ورئيسها الذي أضحى الحلقة الأضعف في السلطة التنفيذية يملي عليه الآباء جميعهم توزيع الحقائب الوزارية، والأكثرية داخل الحكومة ويفرضون عبر وزرائهم ما ينفذ من مراسيم وما لا ينفذ.
يعبّر التعثّر في انتخاب رئيس جديد للبنان عن حالة إختناق تعيشها الدولة الأبويّة في لبنان، ليس أمام مواطنيها وأمام حلفائها الإقليميين بل بإنكشافها على العالم الذي تستجديه لإنقاذ ما تبقّى من البلاد. الدولة في لبنان تبحث دون جدوى، كأي نظام شمولي، عن حلول تبقيها دون تنازلات عن سلطاتها وعن قوتها الإقصائية وتأخذ عن كاهلها في نفس الوقت هموم و مسؤوليات أبويّتها، بعد أن أفرزت طبقة ثانية وثالثة من المستفيدين من أبوّيتها، وهؤلاء بدورهم قد اعتادوا ما ألفوه ممن فوقهم من ضعف المحاسبة والرقابة. لكن تجارب التاريخ وقبلها الواقعية السياسية تفضيان إلى فشل كل الأنظمة الأبويّة في التخلص من أزماتها سواء في الدول الليبرالية أو في الأنظمة الشمولية دون تنازلات مؤلمة وكبيرة، أقلّها إعادة الإعتبار للدستور مقابل الحفاظ على الإستقرار.
العميد الركن خالد حماده - اللواء