نداء إلى البطريركية المارونية
عاد البابا فرنسيس وأكّد مرّة جديدة عمق اهتمامه بالمنطقة من منطلق انسانيّ عام وايماناً منه بأهمية الحفاظ على التنوّع الديني فيها. والجدير ذكره أن الكنائس المسيحية في الشرق وبالأخص الكنيسة المارونية كانت سباقة الى الانفتاح على المسلمين والتلاقي معهم، لكن هذا الدور هو الآن في تراجع نسبي.
إنها المرة الرابعة التي يزور فيها البابا فرنسيس المنطقة، فبعد زيارته لمصر في أيّار 2017 ولقائه شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، ثمّ الامارات العربية المتحدة في شباط 2019 لتوقيع وثيقة "الاخوّة الانسانية" الى جانب الشيخ الطيب، زار الحبر الأعظم العراق في آذار 2021 حاملاً معه رسالة رجاء للعراق وبالأخص للمسيحيين فيه، والآن يزور البابا مملكة البحرين في زيارة عنوانها التلاقي بين الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني.
إن زيارات البابا فرنسيس إلى منطقتنا بمضامينها الإنسانية والحضارية تبعث في نفوس شعوبها الطمأنينة والرجاء بأن الحروب ليست قدر هذه المنطقة وأن المستقبل يجب أن يكون للتعايش والسلام، لكنّها تحثّ في الوقت نفسه أهل المنطقة، ولا سيّما المسيحيين وخاصةً الموارنة في لبنان، على استعادة تاريخهم ومساءلة دورهم في الحاضر والمستقبل في لبنان والمنطقة، بعد أن قاموا بأدوار تاريخية في التلاقي بين الشرق والغرب منذ زيارة البطريرك إرميا العمشيتي إلى روما في العام 1215، وفي تكريس أسس التعايش الإسلامي المسيحي والسعي إلى إحلال الرابطة الوطنية بدل الرابطة الدينية كما جاء في رسالة البطريرك الياس الحويك إلى مؤتمر فرساي في باريس في العام 1919.
إن مساءلة الموارنة لواقعهم ودورهم تبدأ بلا أدنى شكّ من أعلى مرجعياتهم - اي البطريركية المارونية - التي قادت سفينة الموارنة عبر التاريخ في بحر من العواصف الهوجاء واستطاعت أن تعبر بهم إلى بر الأمان وأن تجعل لهم دوراً فاعلاً في لبنان والمنطقة والعالم، إذ عرف البطاركة الموارنة طوال تاريخهم أن يقرأوا جيداً الواقع اللبناني وتحولاته وواقع المنطقة والعالم ومتغيراته.
بهذه الروحية والمنطلقات تأسّس لبنان الكبير، برافعة البطريركية المارونية؛ وبها ايضاً تحقق الاستقلال في العام 1943 في عهد البطريرك انطوان عريضة الذي ثبت الاستقلال باستكمال جلاء الجيوش الفرنسية عن لبنان وبعدم ممانعته لاحقاً المعارضة الشعبية ضدّ تمديد ولاية الرئيس بشارة الخوري.
كذلك فإن البطريرك بولس المعوشي اختبر أوّل تحدّ للميثاق الوطني في العام 1958 تحت وطأة صراع المحاور والأحلاف في عزّ الحرب الباردة، فحمى العيش المشترك الاسلامي المسيحي بإبقائه البطريركية المؤتمنة على الكيان اللبناني فوق الصراع الأهلي.
ومثله فعل البطريرك أنطونيوس خريش الذي جنّب بكركي الانغماس في الحرب الأهلية، وصولاً الى البطريرك نصرالله صفير الذي أسس ركائز الاستقلال الثاني من خلال إطلاقه نداء المطارنة الموارنة في أيلول 2000.
كلّ هذا التاريخ الوطني المجيد للبطريركية المارونية يجعلها دائماً عنوان الأمل والرجاء وخصوصاً في الأوقات الصعبة، ولكنّه في الوقت نفسه يحملّها مسؤولية جسيمة في أن تكون على قدر دورها التاريخي الذي كان وما يزال حاجة للبنان والمنطقة، وهو ما تجلّى خلال زيارة البطريرك بشارة الراعي إلى المملكة العربية السعودية في تشرين الثاني 2017. وكانت هذه الزيارة مفصلية في تاريخ المنطقة، إذ كان البطريرك الراعي أوّل رجل دين مسيحي على هذا المستوى يزور أرض الحرمين الشريفين، وبالتالي فقد فتحت آفاقاً جديدة وواعدة للتعايش الاسلامي المسيحي في المنطقة.
لكن على الرغم من الأهمية القصوى لهذه الزيارة فهي لم تلقَ المتابعة اللازمة، وسرعان ما أفرغت من مضامينها السامية تحت وطأة التجاذبات والحسابات اللبنانية الضيقة، بينما كان يفترض أن تؤسس فعلاً لعصر جديد من التعايش في المنطقة يلاقي الاهتمام الفاتيكاني بل ويمهّد له، ويجعل البطريركية المارونية فاعلةً فيه لا مشاركة فيه كما سائر المشاركين.
فالكنيسة المارونية التي كانت رائدة التلاقي بين الشرق والغرب مخوّلة ويفترض بها أن تكون حاضرة على نحو أقوى في المبادرات البابوية تجاه المنطقة، بدءاً بالطلب من كافة الكنائس الشرقية الممثلة في القدس الانضمام الى مبادرة التلاقي المسيحي-الإسلامي برمزيها البابا فرنسيس والشيخ أحمد الطيب، شيخ الأزهر.
إنّ التجربة اللبنانية كانت ولا تزال هي المختبر الحقيقي للعيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين، وهو ما يجعل البطريركة المارونية مؤهلة وقادرة على القيام بدور أفعل لتعزيز شروط التعايش في المنطقة والتلاقي بين الشرق والغرب انطلاقاً من ثوابتها التاريخية، وهي التي قرأت الإنجيل بلغة القرآن.
إنّ هذا الدور أمانة متجددة ودائمة في عنق البطريركية المارونية لأنها الوحيدة المخولة حمل هذه الأمانة. وعليه فإننا نتطلّع إليها بعين الأمل لكي تستعيد دورها الخاص بلبنان لكن العابر أيضاً إلى رحاب المنطقة والعالم، ولا سيما في ظلّ الظرف العصيب الذي يمرّ به وهو ما يجعله أحوج ما يكون الى استعادة بكركي دورها التاريخي لأنه دور لطالما كان المنقذ للبنان.
إنّ المتغيّرات في لبنان والمنطقة كثيرة ومعقدة لكنّ الثابت الوحيد أنّ لا مستقبل للبنان والمنطقة خارج العيش المشترك الإسلامي المسيحي وهذه رسالة بطريركية إنطاكية وسائر المشرق أولاً وأخيراً.
ايلي القصيفي – فارس سعيد - النهار