مستقبل لبنان وشعبه الطيِّب بين إنتخابات 2005 و2022
كتب العميد الركن خالد حماده في "اللواء":
خرج الرئيس سعد الحريري من المشهد السياسي اللبناني مثقلاً بأوزار حقبة سياسية حفلت بتعقيدات مذهبية حادّة على مستوى المشاركة في السلطة، وبانغماس غرائزي في مشاريع نفوذ إقليمي بمواجهة الشرعيّتين العربية والدولية وبإفتقاد عارم للمناعة الوطنية. قد يكون سعد رفيق الحريري هو أقل من يتحمّل مسؤولية التسبّب بالإخفاقات والتوترات التي طبعت تلك الحقبة، ولكنه كان على الدوام في موقع المسؤول، بحكم الدستور، عن إخراج لبنان من المسار الإنحداري الذي فرضه محور إيران على لبنان واللبنانيين.
إنّ أيّة مقاربة حقيقية لإنتاج الدولة المدنية الديمقراطية في لبنان عربيّ كرّسه اتّفاق الطائف، تستدعي إجراء قراءة نقديّة للحقبة التي ابتدأت باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط 2005 وطويَت في 24 كانون الثاني 2022، بخياراتها السياسية التي اعتُمدت في ظلّ أكثريّة نيابية عنوانها السيادة والإستقلال، لاستخراج الدروس والأسّس الآيلة لولادة لبنان جديد يليق بأبنائه.
إنّ ما يجب مناقشته بهدوء وبمسؤولية والإعتراف بعدم صوابيته، هو فشل التسويات التي عدّدها الرئيس سعد الحريري، من احتواء تداعيات 7 ايار إلى اتّفاق الدوحة الى زيارة دمشق إلى انتخاب ميشال عون إلى قانون الإنتخابات ــ والتي أتت كلها على حسابه وهو صادق في ذلك ــ في الوصول إلى لبنان منيع في وجه الحرب الأهلية. فلبنان المنهار إقتصادياً والمعزول عربياً ودولياً هو أقل مناعة وأقل تماسكاً، ولبنان المستباحة حدوده والملاحَق بتهم تصدير المخدرات وتهريب السلاح وتبييض الأموال هو أكثر استهدافاً، ولبنان الذي يتوزع بعض أبنائه على حروب إقليمية في دول عربية شقيقة تحت عناوين مذهبية متشدّدة أو لحماية أنظمة سياسية مشبوهة، والذي تستنهض مواطنيه عند كلّ أزمة سياسية خطوط تماس ماثلة في أذهانهم، هو الأقرب الى خوض مغامرات الحرب الأهلية.
إنّ ما أورده الحريري من مسوّغات لخروجه من الحياة السياسية اختصرها بأنّ «لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان في ظلّ النفوذ الإيراني والتخبط الدولي، والإنقسام الوطني واستعار الطائفية واهتراء الدولة» ينبغي أن تكون مسوّغات يُبنى عليها مشروع سياسي لاقتحام الحياة الوطنية برؤية مختلفة تلاقي مطالب ثورة 17 تشرين 2019، وتطوي معها صفحة من التردد والخنوع وشراء الوقت والرهان على تطويع إيديولوجيات أحاديّة مظلمة وغير قابلة للحياة. وفي هذا السياق كانت استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري إستجابةً لمطالب الثورة ومحاولةً لتشكيل حكومة إختصاصيين بعد جريمة تفجير مرفأ بيروت بمثابة الخطوة الأولى التي لم تستكمل بامتلاك شجاعة القرار للعبور من المستنقع السياسي فوق تسويات خاطئة حيكت على حساب أمن وإقتصاد ودور لبنان.
لا شك أنّ الظروف المحيطة بتعليق الحضور في الحياة السياسية للرئيس سعد الحريري وتياره أقسى بكثير من تلك التي أحاطت بتقديم الرئيس الشهيد رفيق الحريري استقالة حكومته في تشرين الأول / أكتوبر 2004، وقد لا يجمع بين المناسبتين المتشابهتين لجهة المواجهة مع الفريق السياسي الإقليمي عينه سوى كلمة الوداع الوجدانية بوقعها المؤلم على اللبنانيين وإحساسهم بأنّ المرحلة القادمة مفتوحة على العنف والمجهول. في العام 2004 كان الأمل عارماً لدى الغالبية العابرة للطوائف بأنّ لحظة تحرير لبنان من الإحتلال السوري في ظلّ احتضان عربي ودولي وظروف إقتصادية ملائمة قد أضحت على قاب قوسيّن أو أدنى ، وكانت استقالة الرئيس الشهيد هي إيذان بإعلان اللاعودة عن المواجهة. في حين يأتي خروج الرئيس سعد الحريري بمثابة إعلان الإنسحاب من المواجهة بعد مسار من تسويات غير مدروسة لم تكن سوى عبارة عن إنكسارات مجانية.
لا بدّ من معاينة التزامن بين انسحاب الحريري من الحياة السياسية والمبادرة العربية / الخليجية الدولية لبناء الثقة مع لبنان، التي وضعها وزير الخارجية الكويتي الدكتورأحمد ناصر المحمد الصُباح في عهدة الدولة اللبنانية للإجابة عليها. حمل الموفد العربي العناوين التي سبق وأُُسّست عليها كلّ التسويّات التي تناولها الرئيس سعد الحريري، والتي إلتف عليها حزب الله وحلفائه، وهي الإلتزام باتّفاق الطائف وتنفيذ الإصلاحات الشاملة في الطاقة، ومراقبة الحدود ومكافحة الفساد، وتنفيذ القرارات الدولية ولا سيما القرارات 1559 و1701 و1680 والقرارات ذات الصلة، وتقديم الضمانات لكي لا يكون لبنان منطلقاً لأعمال إرهابية وتهريب المخدرات، وحصر السلاح بمؤسسات الدولة الشرعية والتزام سياسة النأي بالنفس. تأخذ هذه المبادرة بعداً يتجاوز حدود الثقة بلبنان لتتحوّل إلى نوع من رسم الحدود بين الحلفاء والخصوم أمام استحقاقات وشيكة، في ضوء التطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة العربية، ولا سيما الإعتداءات الحوثية على دولة الإمارات العربية المتّحدة والمملكة العربية السعودية وتصاعد المواجهة في اليمن في ضوء هزائم متلاحقة لحلفاء طهران، وانسداد الأفق السياسي في العراق وتعثّر المفاوضات النووية في فيينا.
قد يكون تعليق مشاركة حزب لبناني حديث النشأة وله قاعدته الشعبية في الإنتخابات، وبشكل طوعي شأناً غير مسبوق في الحياة السياسية، فالأحزاب والزعماء في لبنان عبر تاريخه لا يخرجون بل يُخرجون من الحياة السياسية بقوة الإرادة الإقليمية. في مطلق الأحوال فإنّ اللبنانيين الأحرار الذاهبين لخوض الإنتخابات النيابية مدعوون لصناعة اللحظة الحرجة التي انطلقت في إنتخابات 2005 من أجل مستقبل «هذا البلد الحبيب لبنان وشعبه الطيب».
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات