ميلاد بكركي: بطريركٌ وعظ.. ورئيسٌ لم يتّعظ
كتب د. فادي الأحمر في "أساس ميديا":
مقدّمة لا بدّ منها:
في المسيحية، الواعظ هو الأسقف، أو الكاهن المبشّر بالدين المسيحي وبالإيمان بيسوع المسيح. والموعوظ هو الإنسان الذي قرّر الارتداد إلى الدين المسيحي.
في بدايات المسيحيّة كان الموعوظون أشخاصاً بعمر الشباب، وآخرين متقدّمين في السنّ. بعضهم كان وقع كلام الواعظ في آذانهم كوقوع البذار "في الأرض الجيّدة"، فأثمر "بعضه مئة ضعفٍ، وبعضه ستّين، وبعضه ثلاثين" (متّى 8:13). وبعضهم الآخر كان وقع العظة في آذانهم كوقوع البذار "بين الأشواك، فطلع الشوك وخنقه" (متّى 7:13).
خلال مشاركته في قدّاس الميلاد، جرياً على العادة، سمع الرئيس ميشال عون من البطريرك الماروني ما بشارة بطرس الراعي، عظة ناريّة عن المسؤولين الذين "امتهنوا قهر الشعب ولفّه بثوب الحزن والوجع بدل فرحة العيد". وسمع عظة تحذيرية من "اختلاقِ لبنانَ آخَر لا يُشبِه نفسَه ولا بَنيه ولا بيئتَه ولا تاريخَه ولا حضارتَه". عظة قاسية جداً لم نعتَد سماعها من سيّد بكركي في حضور رئيس الجمهورية. عظة وطنية شاملة، وضعت من جديد "بكركي كمشروع سياسي"، كما عنوَن مقاله في "أساس" الزميل نديم قطيش، وقد أصاب.
لا شكّ أنّ الأخطار التي تتهدّد الإنسان اللبناني بوجوده، والكيان اللبناني بوجوده، هي التي دفعت بالبطريرك إلى إلقاء تلك العظة الناريّة، وإلى تخصيص أكثر من نصفها للشؤون الوطنية. في حين اعتدنا أن لا يتجاوز التوجيه الوطني في نهاية العظات البطريركية بضعة أسطر.
قبل ختام عظته، توجّه البطريرك إلى الرئيس بالقول: "نحن نساندكم، فخامة الرئيس، لكي يستعيدَ لبنان توازنه وموقِعَه في العالمِ العربيٍّ وبين الأمم. نساندكم لكي تَرفعوا غطاءَ الشرعيّةِ عن كلِّ مَن يُسيء إلى وِحدةِ الدولةِ والشراكةِ الوطنيّةِ، إلى النظامِ الديموقراطي ودورِ الجيشِ اللبنانيِّ وعملِ القضاء، ويَمنعُ تنفيذَ الدستورِ والقراراتِ الدُولية. ولقد لَمستُم مدى الضررِ الذي ألْحَقه هذا الواقعُ القائمُ بعهدِكم الذي أردُتموه، لدى انتخابِكم، عهدَ إصلاحٍ وتغييرٍ وتثبيتِ هيبةِ الدولة".
خرج ميشال عون من الصرح البطريركي، وقال للصحافيين: "انتظروا كلمتي يوم الإثنين!". وكأنّ شيئاً عظيماً سيقوله في ذاك الإثنين.
"التعمية" العونية
إنّها الدعاية العونية. إنّه أسلوبه مذ كان للمرّة الأولى في بعبدا في ثمانينيّات القرن الماضي. أسلوبه في التهرّب من اتّخاذ موقف. وأسلوبه في التهرّب من مواجهة الحقيقة. فدعاية ميشال عون قامت على التعمية حول الحقائق. وزعامته كبرت بخوض المعارك الوهميّة، وبتعطيل المسار الدستوري والحياة السياسية، وبتسخير كلّ شيء، حتى المصلحة الوطنية، من أجل الوصول إلى الرئاسة. هذا ما فعله في ثمانينيّات القرن الماضي. ولكنّه لم ينجح حينها.
بعد عودته إلى لبنان في 2005 اعتمد الأسلوب ذاته ونجح. للأسف. وما يؤسفنا أكثر أنّه نجح بمساعدة سمير جعجع الذي من المفترض أن يكون أكثر العارفين به وبشخصيّته وبأسلوبه السياسي. ونجح بتسوية سياسية "رخيصة" مع سعد الحريري.
المهمّ اليوم أنّ ميشال عون يعيد تكرار التجربة ذاتها من أجل ضمان دعم حزب الله لجبران باسيل في الانتخابات النيابية المقبلة وتبنّي ترشيحه في الانتخابات الرئاسية.
فهو حاول التعمية على حقائق كثيرة. بكلامه عن "أهل المنظومة" حاول التعمية على حقيقة أنّه وتياره السياسي جزء منها، منذ العام 2005 حتى اليوم، ومنخرطون حتى العظم في سوء إدارة البلاد والفساد اللذين أوصلا لبنان إلى الانهيار. وبكلامه عن "المعطّلين" حاول التعمية عن أنّه "سيّد" التعطيل مع السيّد حسن نصرالله. بدأ في العام 2007 حين أقاما معاً اعتصاماً في وسط بيروت استمرّ سنة ونصف السنة، عطّلا من خلاله ليس فقط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، إنّما الحياة الاقتصادية في وسط بيروت، وعطّلا انتخاب رئيس للجمهورية بعد نهاية ولاية إميل لحود. وعطّل هو نفسه تشكيل أكثر من حكومة لأشهر. وكان أشهرها ذاك التعطيل "لعيون صهر الجنرال". وآخر تعطيل كان تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية لمدّة سنتين ونصف سنة ليفرض نفسه مرشّحاً أوحد.
وهم "مكافحة الفساد"
يحاول الرئيس عون إيهامنا بأنّه يخوض معركة محاربة الفساد في البلاد منذ عودته إلى لبنان. اتّخذ شعار "الإصلاح والتغيير" لتكتّله النيابي. وأصدر كتاب "الإبراء المستحيل". وشنّ حملة على رياض سلامة قبل وصوله إلى السلطة وبعده. وإذا بـ"الإصلاح والتغيير" شعار فارغ. و"الإبراء المستحيل" وُضِع في الأدراج من أجل التسوية التي أوصلته إلى بعبدا وأعطت جبران باسيل حصّة وازنة في التعيينات في الدولة وإداراتها. واستطراداً، يبدو أنّ استعجاله اليوم لعودة حكومة نجيب ميقاتي إلى الاجتماع يرجع إلى رغبة جبران في الحصول على حصّة في التعيينات الدبلوماسية والقضائية والإدارية التي ستكون على طاولة مجلس الوزراء حين اجتماعه. أمّا الحملة على رياض سلامة وسوء إدارته للمال العامّ، فانتهت بتعيينه لولاية خامسة!
يحاول ميشال عون إيهام اللبنانيين والعالم بأنّه يخوض معركة مكافحة الفساد. فيما التيار الوطني الحرّ وجبران باسيل صهره ووزيره الدائم ووريثه في رئاسة تيّاره السياسي متّهمان أساسيّان فيه. لا داعي لتكرار الأرقام عن هدر شركة كهرباء لبنان. تكفي الإشارة إلى عرقلة مارسها جبران وكيف رفض تعيين هيئة ناظمة لهذه الشركة على الرغم من اشتراط المؤتمِرين في "سيدر" تعيينها (إضافة إلى شروط إصلاحية أخرى) للحصول على أموال الدول المانحة.
أمّا تسخير المصلحة الوطنية من أجل مصالحه الشخصية فهو الأخطر في مسيرة ميشال عون السياسية. وهو يستمرّ به اليوم لأجل مصلحة جبران.
كان ينتظر اللبنانيون منه موقفاً واضحاً من سلاح حزب الله غير الشرعي والتابع لإيران الذي قتل لبنانيين في أيار 2008، ومن هيمنته على الدولة، وبخاصة في ظلّ رئاسته، وانخراطه في حروب المنطقة الذي أدّى إلى تدهور علاقات لبنان العربية وإلى قطيعة مع العديد من دول الخليج العربي. فإذا به في كلمته الأخيرة يعيد تأكيد معادلة "جيش وشعب ومقاومة" التي كان قد سمّاها سلفه ميشال سليمان بـ"المعادلة الخشبيّة"، وتنبذها الغالبية العظمى من اللبنانيين.
حتّى مناصروه يرفضونها اليوم بعدما تكشّف لهم دور سلاح الحزب في الداخل وفي الإقليم خدمةً للمصالح الايرانية على حساب المصلحة الوطنية ومصلحة كلّ لبناني في الخليج. بحسب ميشال عون، وانطلاقاً من معادلة "جيش وشعب ومقاومة"، تكون الدولة هي المسؤولة الأساسية عن الدفاع عن الوطن! و"وحدها الدولة تضع الاستراتيجية الدفاعية، وتسهر على تنفيذها".
فأيُّ دولة ستضع الاستراتيجية الدفاعية ما دام "الدفاع عن الوطن يتطلّب تعاوناً بين الجيش والشعب والمقاومة"؟ وفي وقت لم يرفع الرئيس "غطاءَ الشرعيّةِ عن كلِّ مَن يُسيء إلى وِحدةِ الدولةِ والشراكةِ الوطنيّةِ، إلى النظامِ الديموقراطي ودورِ الجيشِ اللبنانيِّ وعملِ القضاء، ويَمنعُ تنفيذَ الدستورِ والقراراتِ الدُولية"، كما وعظه البطريرك يوم الميلاد، فهل يعني بالدولة "دولة حزب الله"؟ وهل هذه الأخيرة هي التي ستسهر على تنفيذ الخطّة الدفاعية؟
ربّما على البطريرك أن يلقي أكثر من عظة وطنية على الرئيس ميشال عون. لعلّه يرتدّ إلى الإيمان بلبنان الميثاق والدستور والدولة ومؤسّساتها والشفافيّة في العمل السياسي والجرأة في تحمّل المسؤولية والصدق في مخاطبة المواطنين...
يوم عيد الميلاد كان البطريرك واعظاً رائعاً. لكنّ الرئيس لم يتّعظ.