وضوح المثلّث الصّيني - الرّوسي - الإيراني وغموض السّياسات الأمنيّة الأميركيّة
كتبت راغدة درغام في "النهار العربي": يرى البعض أن نفوذ الجمهورية الإسلامية الإيرانية سيتضاءل في ظل الصفقة النووية المرتقبة بينها وبين الولايات المتحدة والصين وروسيا والدول الأوروبية الثلاث، ألمانيا وبريطانيا وفرنسا التي ستطوّقها، ولا يعير أصحاب هذا الرأي أهمية بالغة لانتماء إيران الى الثلاثي الصيني - الروسي - الإيراني trilateral باعتبارها اللاعب الأضعف وحلقة الوصل الركيكة. هناك مدرسة فكر أخرى يختلف رأيها في الأمرين، وترى أن رفع العقوبات عن طهران بموجب إحياء الصفقة النووية JCPOA سيضع في أيديها المال الإنقاذي لمكانتها ولمشاريعها، وأن مجرد انتمائها الى شبه حلفٍ عسكري وسياسي واقتصادي، يضمّها الى دولتين كبريين كالصين وروسيا، سيحوّلها دولة استقواءٍ إقليمي أكثر عزماً وتشدّداً وعنفاً في فرض نموذج حكمها ونظامها ضمن مشروع "الهلال الشيعي"، بالذات في العراق وسوريا ولبنان بامتداداتها الخليجية والشرق أوسطية.
هذا الأسبوع، اشتدّت لغة التموضع الاستراتيجي لكل من اللاعبين، فكشف القادة المدنيون والعسكريون الأميركيون عن سياسات أمنية تجاه الشرق الأوسط، بمقاربة شاملة أكدت بقاء القوات الأميركية في المنطقة مع تعديل خريطة انتشارها ضمن مبادئ "العزم والالتزام والتعاون"، لطمأنة أصدقائها في المنطقة، وتأكيد قدرة الولايات المتحدة على الانتشار والتمتّع بالقوة بسرعة بأبعد من حجم العتاد والجنود في القواعد العسكرية لمواجهة التهديدات الأمنية الإيرانية بوسائل "ذكية". أما القيادة الإيرانية، فإنها لجأت الى وسائل عدة سعياً الى تأكيد مقامها في المعادلات الاستراتيجية للدول الكبرى، منها عبر إظهار عضلاتها العسكرية ميدانياً، ومنها ما دخل في خانة التموضع مع كبار القوم استراتيجياً، ردعاً للولايات المتحدة وتنبيهاً لقادة المنطقة. وعليه، تعمّدت المخابرة الهاتفية بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والإيراني إبراهيم رئيسي بعث رسالة مفادها أن ما يُحاك بينهما هو اتفاقية شاملة تقارب المعاهدة pact التي وقّعتها الصين مع إيران لفترة 25 سنة، وأن ما يُصاغ هو محور استراتيجي ثلاثي صيني - روسي - إيراني يتم تطويره وفقاً لبوصلة العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية، كما مع دول منطقة الشرق الأوسط من إسرائيل الى الدول الخليجية العربية.
ليس متوقعاً أن تكون اتفاقية التعاون، أو المعاهدة، بين روسيا وإيران بحجم تلك التي وقّعتها الصين مع إيران، لكنها تبقى ذات دلالات لها خصوصية كتلك في سوريا، مثلاً. ما اتفق عليه الرئيسان الروسي والإيراني هو رفع وتيرة العمل على الاتفاقية بهدف توقيعها ربما قبل نهاية العام. وبحسب المطّلِعين على ما تنصبّ عليه فِرق العمل، أن المعاهدة ستكون على الأقل لفترة 10 سنوات، وستنطوي على مشاريع عسكرية ونفطية وسياسية، بحيث يصون طرف منها مصالح الطرف الآخر في أكثر من ملف وبلد ومشروع ورؤية.
إيران مستفيد كبير، بالطبع، بل إن البعض يرى أن الحظ حقّاً يحالف الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ففي حين أن الاتفاقية الشاملة مع الصين لها مردود عسكري ونفطي ثمين للطرفين، فإن الاتفاقية الشاملة مع روسيا لها بُعد إضافي هو انخراط روسيا سياسياً في منطقة الشرق الأوسط، الى جانب مجالات التعاون العسكرية والنفطية والاقتصادية، وانخراط إيران في مشاريع إقليمية تحتاج فيها الى روسيا. فإذا كان مشروع الهلال الفارسي في صدد التنفيذ على الأرض، فإن المحطّة السورية فيه تتطلّب قطعاً تعاوناً روسياً - إيرانياً جذرياً. هناك في سوريا، يملك الكرملين مفاتيح القيادة السورية على مستوى الرئيس بشار الأسد، وتملك إيران المفاتيح على الأرض السورية. فمن يملي على مَن، روسيا أم إيران، في سوريا؟ السؤال يُطرَح، لكن نتيجة التفاهمات الكبرى على نسق تلك التي تُصاغ بين روسيا وإيران، هي الشراكة في الهدف والشراكة في الميدان.
في سوريا، تتقاطع الشراكة مع الحاجة الى إعادة خلط الأوراق، والتغيير في السياسة الأميركية، والسياسات الإسرائيلية نحو إيران، وانفتاح عربي على إمكان عودة سوريا الى جامعة الدول العربية. هذا الانفتاح، كما يقول أصحابه، يأتي ببعدين أساسيين: تقليص النفوذ الإيراني العارم في سوريا كي تبقى الهوية السورية عربية وتبقى سوريا في الحضن العربي لا في الحضن الفارسي. وثانياً، استخدام ثغرة الضعف الإيراني في سوريا المتمثلة في عدم قدرة إيران على تمويل إعادة إعمار سوريا الضروري لاستقرارها، ليكون مدخلاً عربياً الى سوريا يُضعِف كأمر واقع التوسّع الإيراني ويقطع خيطاً مهماً في استراتيجية الهلال الفارسي.
حسبما يتردد، قد لا تمانع روسيا، ضمناً، تخفيض النفوذ الإيراني في سوريا، لكن هذا لا يُترجَم الى بدء الطلاق مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فما يهم موسكو في معادلة تقليص نفوذ إيران أو تقليص نفوذ الأسد، هو الأسد. وما دامت هي ليست مضطرة لحسم أمرها الآن، فروسيا جاهزة للعب كل الآلات الموسيقية في سيمفونيتها السورية، إسرائيلية كانت أم إيرانية أم أميركية. فإذا وجدت إدارة بايدن نفسها في حاجة الى انسحاب سلمي من سوريا من دون أن تبدو أنها تسلّم سوريا الى روسيا، فإن الكرملين مستعد "للتعاطف" معها وتسهيل أمورها بصمت وليس بشماتة كما فعل بها انسحابها من أفغانستان.
السؤال الذي يطرح نفسه في إطار أهداف المثلث الصيني - الروسي - الإيراني الجيوسياسية هو: ماذا في ذهن الصين وروسيا عندما يتعلق الأمر بإسرائيل وبالمعادلة الاستراتيجية بين إيران وإسرائيل، في ظل المعاهدات أو الاتفاقيات الشاملة بين أطراف المثلث؟ بكلام آخر، هل يمكن أن تحتفظ الصين وروسيا بحق تطوير القدرات العسكرية الإيرانية، بموجب المثلث الاستراتيجي، لدرجة أن تصبح إيران أقوى عسكرياً ونوعياً وفعلياً من إسرائيل؟
العلاقات الصينية والروسية بإسرائيل لا تفيد بأن هذا في بال أو خطط القيادات الصينية أو الروسية. لكن العملاقين قد يقرّران أن الاحتفاظ بهذا الخيار ضروري في معادلة علاقاتهما بالولايات المتحدة التي قد تبدو اليوم في مهد إدارة بايدن أقل تمسكاً بالتفوق العسكري النوعي لإسرائيل، مع وقف التنفيذ في الاستراتيجيات الأميركية العسكرية الكبرى.
هذا الأسبوع، أطلقت إدارة بايدن مقاربة شاملة لسياساتها الأمنية تجاه الشرق الأوسط، في خطاب لوزير الدفاع لويد أوستن أمام "حوار المنامة" في البحرين، بعدما كان قائد القوات المركزية الأميركية فرانك ماكنزي قد تحدّث في مؤتمر المجلس الوطني للعلاقات الأميركية العربية في واشنطن NCUSAR. الرئيس جو بايدن أكد أنه لا يعتزم إنهاء "وجودنا العسكري الدائم في المنطقة منذ أكثر من 70 عاماً، وهذا الواقع الأساسي لن يتغيّر". وزارة الدفاع (البنتاغون) شدّدت على أن التهديدات الإيرانية المستمرة تتطلّب الحذر، وأن حماية الممرات والمضائق المائية "أمر لا بد منه" في ظل استمرار مسببات اللااستقرار.
اللغة الأميركية الأمنية التي انطلقت بألسنة مسؤولين عديدين هذا الأسبوع أتت قبل انعقاد جولة مهمّة من المحادثات النووية مع إيران في فيينا في 29 الشهر الجاري. ركّزت هذه اللغة على تعابير مثل ضرورة "اليقظة المستمرة من خلال الوجود والتعاون مع الشركاء الإقليميين"، إزاء تحركات "الحرس الثوري" الإيراني المعوقة لحرية الملاحة البحرية في مضيق هرمز، وتفعيله الميليشيات التي تدور في فلكه لتهديد أمن الخليج والشرق الأوسط.
الوزير أوستن لم يكن قد ألقى خطابه عند كتابة هذه المقالة، إنما تم الكشف عن المعالم الرئيسية "لخطاب الإعلان" عن السياسة الأميركية الأمنية بلسان وزير الدفاع، وذلك في حديث لمسؤول أميركي كبير مع الإعلام قبل الخطاب. قال إن السياسة الأمنية تجاه الشرق الأوسط مبنية على "العزم والالتزام والتعاون"، وإن الولايات المتحدة ستحتفظ بعشرات الآلاف من الجنود في العديد من القواعد العسكرية في المنطقة، وإن القوات الأميركية ستبقى في العراق وسوريا. لربما بحلّةٍ جديدة.
ما تريده إدارة بايدن هو "تعديل خريطة انتشار القوات" الأميركية التي تقول إنها "قادرة على الانتشار والتمتع بقوة بسرعة". تريد طمأنة الأصدقاء في الشرق الأوسط، إلا أن تركيزها على أولوية مواجهة الصين لا يمنعها من الاحتفاظ بقوات في الشرق الأوسط.
وتقول إدارة بايدن إنه يجب إيجاد وسيلة "ذكيّة" لمواجهة التهديدات الأمنية الإيرانية المستمرة، لكنها تتردد عند الحديث عن "مبدأ الردع" رغم تأكيدها أنه "مطبّق على إيران". ثم إن إدارة بايدن، بحسب المسؤول في وزارة الدفاع، ترى أنه "ليس هناك حل عسكري" لمشكلة التهديدات الإيرانية وميليشياتها. وهذا هو التناقض الأساسي بين مقاربة الرئيس جو بايدن ومقاربة سلفه الرئيس دونالد ترامب الذي حمّل إيران مسؤولية هجمات الميليشيات التابعة لها، وتعهّد الرد عليها مباشرة. فرجال بايدن لا يريدون اللغة العسكرية، ردعاً كانت أو ردّاً على التهديدات.
عنصر البسيكولوجيا في التموضع الاستراتيجي لا يُستهان به، لا سيّما في مرحلة رفع السقف التفاوضي أو سقف التهديدات الأمنية قبيل استئناف المفاوضات النووية في فيينا. ما سعت وراءه إدارة بايدن هو القيام بحملة تطمينية للشركاء الخليجيين العرب، وربما تجميلية لما تنوي تقديمه الى الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الصفقة النووية وصفقة رفع العقوبات. فهناك في فيينا، ممنوع طرح السلوك الإيراني الإقليمي بموجب خضوع أميركي لهذا الشرط الإيراني المدعوم من الصين وروسيا.
إدارة بايدن اختارت أن تكون رسالتها الإقليمية الى الدول الخليجية مكمِّلة للدبلوماسية التي أرادها بايدن عنوان قيادته للولايات المتحدة. فهو لا يريد التصعيد ولا المواجهة. أما مرشد الجمهورية علي خامنئي فإنه يريد توظيف الفرصة لصوغ تحالفات استراتيجية، تتعدّى حكم إدارةٍ أميركية عابرة على مبدأ "خذ وطالب"، مستقوياً بانتماء إيران الى مثلث التصدّي للولايات المتحدة الأميركية.