الكومنولث الإيراني
كتب العميد الركن خالد حماده في "اللواء":
منطقان مختلفان حملتهما زيارتان متزامنتان لكلّ من منسّق المساعدات الدولية من أجل لبنان «بيار دوكان» ووزير الخارجية الإيراني «حسين أمير عبد اللهيان» إلى بيروت. أعاد المبعوث الفرنسي أمام رئيس الحكومة نجيب ميقاتي التأكيد على ضرورة الإسراع في إطلاق المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والمباشرة بتنفيذ الإصلاحات، وضرورة التوصّل إلى اتّفاق قبل نهاية السنة، على أن تسعى فرنسا لتنظيم مؤتمر دولي لتقديم مساعدة مباشرة للدولة، فيما تعامل الوزير الإيراني مع المسؤولين اللبنانيين بمقتضى ما يفرضه ميزان القوى الحقيقي الذي فرضته إيران في لبنان.
إختال ممثّل الجمهورية الإسلامية في كلّ المواقع التي صنعتها مرجعيته بقوة السلاح من بعبدا الى السرايا الحكومي مروراً بعين التينة، مغدقاً الوعود بتقديم المساعدات للبنان لحلّ أزمة الكهرباء بإقامة معامل إنتاج جديدة، ومكرراً ادعاءات فك الحصار المزعوم على لبنان. تدرك طهران، كما اللبنانيون، حقيقة أزمة الكهرباء جيداً بكلّ تفاصيلها فساداً وتهريباً، وتدرك حجم المال السياسي الذي يقتطعه حلفاؤها في لبنان عنوة بقوة سلاحها، والذي أدى إلى انهيار الإقتصاد الوطني. ربما أيقن الموفد الفرنسي دوكان بعد تصريحات اللهيان بإعادة إعمار المرفأ من قبل الشركات الإيرانية، بأنّ الشراكة الفرنسية الإيرانية التي ابتدأت بتشكيل الحكومة قد انتهت مع إصدار المراسيم وأنّ الميدان اللبناني ليس متاحاً للشراكة.
لم تخفف تصريحات الرئيس ميقاتي حول «ترحيب لبنان بأي جهد من الدول الشقيقة والصديقة والمجتمع الدولي طالما يندرج في سياق مساعدته في الحفاظ على منطق الدولة ومؤسساتها الدستورية ودورها في الحماية والرعاية وتقويّة قواها الشرعية الأمنية والعسكرية» من وطأة وثقل استباحة الزائر المتعالي على مضيفيه ولم تنقذ ماء وجهه. فالمشهد الذي رافق زيارة الممثّل الرسمي للعباءة الإيرانية التي تستظلّها المؤسسات الدستورية وبعض المرجعيات السياسية في لبنان، هو استكمال منطقي للمشهد الهزيل للحكومة ورئيسها لدى إلقاء الوزير باسيل كلمته خلال جلسة الثقة، وللمجلس النيابي برمّته لدى محاولة الرئيس بري إيجاد المخارج للإهانات التي ساقها باسيل بحق النواب في الهيئة العامة بدلاً من وقفها.
لا ينتظر اللبنانيون، ونعني المواطنين المتمسكين بفكرة الدولة برغم سقوط أركانها فساداً وعجزاً وارتهاناً، شيئاً من هذه التركيبة القيّمة على شؤونهم. يختصر ملف الكهرباء وطريقة مقاربته وقاحة المشهد، وكأنّ اللبنانيين هم رعايا وليسوا مواطنين من حقهم معرفة ما جرى في مصر أو في المملكة الأردنية الهاشمية أو في سوريا. فما هي موجبات الزيارة التي قام بها الرئيس ميقاتي إلى عمان ولقاء الملك عبد الله الثاني لبحث موضوع استجرار الكهرباء بعد أيام من زيارة رئيس الحكومة الأردنية بشر الخصاونة لبيروت للتشاور حول الموضوع عيّنه، والتي سبقتها أيضاً زيارة لوزير الطاقة وليد فياض إلى عمان؟ ألا يطرح ذلك جملة من التساؤلات حول مصداقيّة هذه الجمهورية برمّتها - ولا نقول الحكومة لأنها أضحت دائرة من دوائر الرئاسة؟ - وكيف يتلقف المسؤولون في الخارج هذا الأداء؟ والتساؤلات عينها تساق فيما يتعلّق بالنفط العراقي وملابسات استبداله وطريقة تلزيمه واختلاف ساعات التغذية بين ما تمّ الإفصاح عنه وبين ما يتمّ تقديمه؟
ثم ما هي حقيقة نفاذ مادة الغاز أويل وتوقف معمليّ دير عمار والزهراني وخروجهما عن الشبكة، والإستعانة باحتياط الجيش اللبناني من المازوت لتشغيلهما، بالرغم من موافقة الحكومة على سلفة طارئة بقيمة 100 مليون دولار لصالح مؤسسة كهرباء لبنان، في حين تصرّح دائرة المناقصات بأنها لم تستلم دفتر الشروط للتمكّن من إجراء المناقصة؟؟؟!!!!! وهل تزامن الحريق في منشآت الزهراني مع كلّ هذه الإلتباسات الإدارية والرسمية هو من قبيل الصدفة، وهل سيسفر التحقيق عن أيّة مسؤولية؟ لا ينبؤ كلّ ما سبق في مجال الطاقة بذلك.
إنّ ما يجري لا يوحي سوى بالفساد والإرتباك والحوكمة السيئة، وهو ليس سوى مقدّمة لشهور صعبة التوصيف على مستوى الإستقرار الوطني بشقيّه الإقتصادي والإجتماعي على الأقل. إنّ إسقاطاً بديهياً لوضع هذه الجمهورية الرثة على الملفات الداهمة ومنها الملف المالي والإصلاحي، مع واقع الزيارات المرتقبة خلال أيام لكلّ من «فكتوريا فولاند» نائبة وزير الخارجية الأميركي و»إيريك ماير» نائب مساعد وزير الخزانة الأميركية للشؤون الدولية، إضافةً الى ملف ترسيم الحدود البحرية الذي سيبحثه « آموس هاكشتاين» رئيس الوفد الأميركي للمفاوضات الحدودية غير المباشرة، يقدّم صورة واضحة عما ستؤول إليه الأمور وعن الخيارات التي ستذهب إليها سلطة تفرقها المحاصصة ويجمعها القلق على المصير بعد الإنتخابات النيابية القادمة. إنّ أقصى ما يمكن أن تقدّمه هذه السلطة هو التكافل والتضامن ووضع كلّ هذه الملفات بتصرف من يضمن لها البقاء على قيد الحياة.
من حق الوزير حسين عبد الأمير اللهيان أن يختال بين مواقع القرار في لبنان وأن يلقي الخطب والوعود على عواهنها. فلبنان ليس سوى إحدى دول «الكومنولث الإيراني» إلى جانب سوريا والعراق وصنعاء، والذي عبّر عنه أكثر من مسؤول إيراني سواء بالعواصم الأربعة التي تسيطر عليها طهران أو بالجيوش الستة التي تقاتل عن الجمهورية الإسلامية. فحتى إيران التي استكملت وصايتها على القرار اللبناني ستلاقي القوى القلقة على مصيرها وستسعى في الإنتخابات المقبلة وما بعدها إلى تصفيّة الجيوب السياسية والأمنية الخارجة عن سيطرتها تمهيداً للإستثمار الشامل بعد إسقاط كلّ القوى الحيّة في لبنان.
«الكومنولث البريطاني» عاشت دوله لسنوات تحت حكم التاج البريطاني قبل أن تتحوّل إلى رابطة تطوعيّة تضم دولاً مستقلة تتشاور وتتعاون فيما يتعلّق بالمصالح المشتركة لشعوبها والترويج للديموقراطية والحكم الصالح، واحترام حقوق الإنسان وحكم القانون، والتنميّة الإقتصادية والإجتماعية. دول «الكومونولث الإيراني» ومنها لبنان لا زالت في بداية مرحلة العيش تحت حكم « العمامة الإيرانية» وقد لا يكتب لها النجاح في التحوّل الى كومونولث بريطاني.