إيران... والجغرافيا القلقة
كتب مصطفى فحص في "الشرق الاوسط":
لم تنجح إيران على مدى 5 قرون في إيجاد مكان آمن لها في منطقة خضعت سابقاً لتحولات جيوعقائدية ارتبطت بصراعات إمبراطورية توسعية وشعوب حاربت دائماً من أجل انتزاع اعتراف بخصوصياتها الإثنية والروحية، ومع تراجع هذه الإمبراطوريات (القيصرية والعثمانية والبريطانية) واجهت إيران صعوبة في التأقلم مع تحولات جيوسياسية أعادت إنتاج القلق الحدودي الذي عاشه سكان الهضبة الإيرانية ودفعوا ثمنه حروباً وغزوات وهزائم منذ إنشاء الدولة السلطانية سنة 1501 على يد الشاه إسماعيل الأول الصفوي.
مبكراً في عام 1514، أغلقت الدولة العثمانية بجدارها (التركي العربي) طموح إيران بالتوسع شرقاً، وهزمتها في جالديران ثم في بلاد الرافدين عام 1534 وعام 1639، ثم خاضت أربع حروب مع روسيا القيصرية كان أقساها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وانتهت باتفاقية غولستان في عام 1813 ومعاهدة تركمان شاي في 1828، التي تسببت في سلخ أجزاء مما يعتبرونه أراضيهم التاريخية في جنوب القوقاز وبعض من شماله.
في الوقت الذي استطاعت فيه تركيا استعادة دورها في آسيا الوسطى وجمهوريات ما وراء القوقاز، حيث أنشأت مبكراً البيت الثقافي التركي سنة 1986، وعملت على إعادة تكوين المشتركات القومية والدينية بينها وبين شعوب هذه المنطقة... في ذلك الوقت لم تنجح إيران مجدداً في استرجاع نفوذها، خصوصاً في الفضاء الإسلامي جنوب روسيا وواجهت مُعضلة قومية أساسها ارتباط هذه الدول بالعالم التركي وتراجع الهوية الدينية لصالح الهوية القومية في أذربيجان الشيعية، إضافة إلى رفض للنموذج الإيراني في الحكم، وقطع الطريق على مشاريع الإسلام السياسي بشقيها السني والشيعي.
بعد وصول الزعيم الأذربيجاني التاريخي حيدر علييف إلى سدة الرئاسة في باكو (1993 - 2003)، تمكن من وضع حد للتدخلات الخارجية في سياسة بلاده الداخلية بعد سنتين من اضطرابات كادت تتسبب في حرب أهلية، ونجح في القضاء على الحزب الإسلامي الأذربيجاني المدعوم من طهران، وقاد بلاده إلى توجهات غربية مستفيداً من تراجع الدور الروسي وصعود الدورين الأميركي والتركي الذي وجد في العامل القومي مدخلاً إلى ترسيخ علاقات استراتيجية طويلة الأمد مع باكو، الأمر الذي دفع طهران إلى التحالف مع أرمينيا ودعمها عسكرياً في صراعها مع أذربيجان على إقليم ناغورنو قره باغ.
انحياز طهران لأرمينيا ضد أذربيجان شكّل عامل توتر رسمي وشعبي بين البلدين، ودفع باكو إلى إنشاء مجموعة تحالفات جيواستراتيجية واقتصادية بوجه طموحات إيران، ومع تحسن أوضاعها الاقتصادية بسبب ثرواتها النفطية تمكنت من تطوير ترسانتها العسكرية، خصوصاً من روسيا، حيث إن 40 في المائة من تحديث الجيش تعتمد على الصناعات الروسية وأصبحت في سنة 2017 ثالث زبون عسكري لإسرائيل، إضافة إلى تعاون مفتوح من تركيا التي دعمتها في معركة استعادة إقليم ناغورنو قره باغ سنة 2020.
أعادت اتفاقية إنهاء القتال في ناغورنو قره باغ إنتاج القلق الجيوسياسي الإيراني مع سيطرة باكو على الممرات الاقتصادية الإيرانية إلى أوروبا عبر أرمينيا، وفتح طريق عبر الأراضي الأرمينية بمحاذاة الحدود الإيرانية إلى إقليم ناقشيفان الأذري ومنه إلى تركيا، حيث أصبح لأول مرة منذ سقوط الدولة العثمانية هناك طريق مباشر بين أذربيجان وتركيا لا يمر في إيران ولا أرمينيا، ما دفع القيادة الإيرانية إلى التصعيد درءاً لتغيرات في الحدود الدولية تؤدي إلى مزيد من عزلها.
أزمة حدود إيران مع جيرانها دفعت إسلام آباد إلى الدخول على خط التصعيد والقيام بمناورة عسكرية مشتركة مع أنقرة وباكو، وذلك نتيجة تدخل طهران في ثلاثة ملفات تعتبرها باكستان خطراً على أمنها القومي؛ في مقدمتها أفغانستان واختراق طهران لأجنحة «طالبان»، أما الثاني يتمثل في تحديد مصير المقاتلين الشيعة العائدين من سوريا، والثالث هو علاقة طهران بحركة تحرير بلوشستان الانفصالية.
لكن القلق الأساسي في الأزمة الحالية بدأ مع انتصار باكو وصعود الهوية التركية الأذرية الشيعية، التي لها ارتدادات داخل إيران ومدى تأثيرها على وحدة الشعوب الإيرانية، إذ يعتبر الأذر العمود الفقري للدولة الإيرانية منذ خمسة قرون، ويلعبون دائماً دوراً مهماً في صعود أي نظام وسقوطه، وعليه فإن أي خطوة غير مدروسة تجاه أذربيجان ستكون لها انعكاسات داخلية ستزيد القلق من الجغرافيا.