لبنان ...ماذا تغيّر
كتب العميد الركن خالد حماده في "اللواء":
لم تحمل الزيارة التي قام بها رئيس الحكومة إلى باريس أيّة بوادر أو إشارات لانطلاق ديناميات دولية أو محلية ذات صلة بالأزمات التي يتخبّط بها لبنان، ولم يواكب الزيارة أو أعقبها أي نشاط إعلامي أو زيارات لممثّلي المؤسسات المالية الدولية أو لحكومات يعوّل عليها. لقد عايش اللبنانيون منذ تسعينات القرن الماضي ردود الفعل التي كانت تسبق أو تعقب مؤتمرات باريس، والتي كان لوقعها المعنوي ما يطمئنهم بأنّ صداقات لبنان ودوره ورشاقة مجتمعه المدني وطليعية مؤسساته الثقافية والخدماتية لا زالت تحظى بإعجاب وتقدير المجتمع الدولي، بالرغم من إخفاقات السياسيين وفسادهم وعجزهم عن تأسيس دولة وطنية حقيقية. حتى مؤتمر سيدر الذي أضاف إلى الشروط الإصلاحية في الإدارة والإقتصاد شرطاً إضافياً يربط الدعم المالي بالنأي بلبنان عن الصراعات الإقليمية، وهو ما كان يعلم الجميع أنه صعب التحقيق، تمكّن من تعميم الكثير من الإيجابية لدى اللبنانيين بالرغم من قتامة الوضع السياسي.
لطالما اعتبر أصدقاء لبنان من عرب وغربيين أنّ الإنقسامات السياسية في لبنان ليست أكثر من «زوبعة في فنجان»، فمفاعيلها محسوبة السقوف والتداعيات، كما أنّ ما يضفيه اللبنانيون كأفراد ومجموعات من إيجابيات تفوق بكثير تلك السلبيات والحماقات التي يرتكبها حكامهم وحكوماتهم. وبالتالي فإنّ الوطن الصغير يشكّل فائضاً إيجابياً يمنحه فرصة الإستمرار. كما أنّ الطبقة السياسية التي تستثمر فيه دون أن تحكمه، لا يمكنها أن تتنكر لمصدر ارتزاقها وهي لن تنحره بل ستبقيه على قيد الحياة. وقد أثبتت التجربة التي استمرت منذ تأسيس الكيان وحتى نهاية القرن المنصرم أنّ أصدقاء لبنان قادرون على ابتكار التسويات التي حفظت مصالحهم وحمت الكيان من الإنفجار.
أجل إعتقد أصدقاء لبنان فيما مضى، حتى أولئك الذين رعوا وموّلوا زعاماته أو استثمروا في نقاط قوّته، أنّ نزعة التسويات التي هيّمنت على سلوك من حكموه هي الضمانة الدائمة لاستمرار لبنان العصي على الإنتماءات والهويات، وهذا ما أسّست له على المستوى الداخلي مقدّمات نظرية مثل لا غالب ولا مغلوب، ولبنان واحد لا لبنانان وسواهما.
أما على المستويين الإقليمي والدولي فقد ابتكر أصدقاء لبنان لا سيما دول الخليج العربي وفرنسا نماذج متعدّدة وتجارب متكررة لتسويات سياسية أنقذت لبنان من أزماته، بدءاً من أزمات الحكم التي سبقت ورافقت وصول الرؤساء بشارة لخوري وكميل شمعون، وتسويّة وصول الرئيس فؤاد شهاب التي قدّمت مثالاً على قدرة الدبلوماسية العربية الأميركية على احتواء الموقف المتفجّر في لبنان، لتصل بعدها إلى احتواء تداعيات الصراعات الإقليمية على أرضه بدءاً من دخول قوات الردع العربية ووصولاً إلى إسقاط إتّفاق 17 أيار والتوصّل الى اتّفاق الطائف وتفاهم نيسان 1996 وحتى إصدار القرار 1701.
القاسم المشترك بين كلّ تلك التسويات إنها أتت لتقويم تطرف سياسي إختطّه أحد الأطراف أو الطوائف، بدافع إقليمي أحياناً، بما لا يأخذ بعين الإعتبار بالتوازنات الدقيقة في السياسة والإنتماء والهوية للبيئة اللبنانية المتنوّعة. وبمعنى أدق تحدّي الشريك بالخروج الإكراهي عن قواعد الإجتماع السياسي التي تحكم التماسك المجتمعي والوطني أو تهدّد توازن القوى الإقليمي.
فماذا تغيّر؟
يعيش لبنان منذ اتّفاق الدوحة في ظلّ حالة من عدم التوازن السياسي لا تتفق مع قواعد استقراره السياسي الدقيق، هذا الإتّفاق وإن تراءى للبعض أنّ تداعياته قد تمّ تجاوزها إلا أنّ مفاعيله لا زالت تحكم الحياة الوطنية، وليس ما بعده من حكومات متعاقبة أو انتخابات رئاسية سوى نماذج لتشكيل السلطة بالإكراه والقهر بالرغم من نتائج الإنتخابات النيابية. هذا ما ينسحب على أبسط أشكال تطبيق القانون والمساواة بين المواطنين، وهو ما أسقط مفهوم الدولة السيدة وما كرّس الجزر الأمنيّة وما حمى الفساد واستباح القضاء والدستور والحدود. وبهذا فإنّ مسألة إنقاذ لبنان تتجاوز أرقام العجز التي يعرفها القاصي والداني ومسائل الفساد الإداري والهدر الموصوف في الكهرباء وسواها، أو تلك المتعلّقة بالسيادة وامتلاك قرار الحرب والسِلم، فكلّ تلك المعضلات ليست مجرد نتائج لانحراف قيّمي لفريق دون الآخر، بل هي ممارسات قهريّة تستند لانتصار يعيشه فريق سياسي، ليس على شركائه في الوطن بل على كلّ ما يكرّس المساواة بين المواطنين ومنها الدستور والقوانين وهي انقلاب على الدولة برّمتها.
إنّ ما ستحاوله هذه الحكومة أو سواها في معرض البحث عن حلول للأزمات اللبنانية المتفاقمة ليس سوى دوران حول الذات دون جدوى، فالحلول الناجعة ليست في جعبة ماكرون أو البنك الدولي أو في التدقيق الجنائي أو في إعادة الهيكلة، هذه حلول لشركات مفلسة أو مؤسسات على شفير الإنهيار، وليست حلولاً لوطن يحتاج بعض أبنائه إلى الإعتراف بهويّتهم وشركائهم.