"الثقة" على وقع خريطة جديدة للمنطقة...
كتب أديب ابي عقل
المركزية- الثقة التي نالتها حكومة الرئيس نجيب ميقاتي من النواب لا تعكس بعد ثقة الشعب اللبناني في مقدرتها وإمكاناتها التغييرية المنتظرة للخروج من قعر الهاوية، نظراً إلى عمرها المحدد سلفاً بموعد الاستحقاق النيابي المقبل، مقدار ما تعكس "ثقة" صانعي قرار تأليفها الإقليميين والدوليين، لإبقاء الساحة الداخلية باردة، وتمرير المرحلة بأقل أضرار ممكنة على اللبنانيين.
فمجرد التأليف على هذا النحو، المطبوع بالتراجع عن عنوان الاختصاصيين المستقلين بالكامل، الذي كان مطلباً دولياً حازماً، والقبول بالشكل الراهن للتركيبة على قاعدة المحاصصة الداخلية و"الخارجية"، جاء نتيجة تفاهم إقليمي دولي عريض لتبريد الداخل عبر سلطة تنفيذية، وغضّ نظر دولي عن أمور حصلت، أبرزها السماح الأميركي بتمرير المازوت الإيراني بالشكل الذي تمّ، من سوريا إلى لبنان عبر معابر التهريب، وإن كان "المستوردون" سيستفيدون من توزيعه على أنصارهم، في خطوة تهدف إلى إعادة استنهاض التأييد الشعبي في الانتخابات النيابية المقبلة.
وما يجري ينطوي على سلسلة رسائل ذات صلة مباشرة بالتفاهم الحاصل بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وفرنسا وإيران، لرسم الخريطة الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط لعقود مقبلة، وتوزيع النفوذ والأدوار فيها مباشرة وبالواسطة، من أفغانستان إلى لبنان، وتأمين أمن اسرائيل ودورها كقوة إقليمية أولى في المنطقة.
والواضح أن "الانكفاء" الأميركي المباشر، لا يعني تخلّي الولايات المتحدة عن مصالحها في هذه البقعة من العالم، بل هي على تفاهم مع روسيا وفرنسا على إدارة التنفيذ برعايتها، وهي حفظت سلفاً مصالحهما ونفوذهما، وما دورها في إلغاء صفقة بيع الغواصات الفرنسية لأستراليا، سوى" تنبيه" للرئيس إيمانويل ماكرون بعدم الذهاب بعيداً مع ايران، بعد استعجال الرئيس الفرنسي عقد صفقات بأكثر من مئة وثلاثين مليار دولار مع طهران في مجالي النفط والطيران، بعد صفقة النفط مع العراق بنحو سبعة وعشرين مليار دولار.
ووفق هذه المعطيات والتوجهات، من المرجّح أن تكون بانوراما المنطقة على النحو الآتي:
سوريا، ستكون تحت الوصاية الروسية بالكامل، حيث سيتم "إبعاد" رموز النفوذ العسكري والاستخباراتي الإيراني منها تدريجاً، لتستقر بشكل شبه كامل في الحضن الروسي، فيما بقاء قوات أميركية في مناطق النفط، يكون مثابة العين المراقبة للتنفيذ بدقة.
العراق، سيكون مؤهلاً للعب دور الوسيط الإقليمي بين ايران والدول العربية، ولا سيما منها السعودية ومصر، لأن مصلحة طهران من هذا التفاهم الدولي تتطلّب، لا بل تفرض، الانفتاح على العالم العربي، وإزالة حال الجفاء القائمة، كي تكون "مقبولة" في المنطقة، بعدما ثبت أن سياسة التحدي عبر إعلانها "الامساك" بأربع عواصم عربية (بغداد، دمشق، اليمن، بيروت)، لم تعد مجدية، خصوصاً وأن نفوذها بدأ يتراجع في هذه العواصم، باستثناء بيروت لغاية الآن.
وهذا الدور التوفيقي للعراق، كان على لبنان أن يلعبه. لكن انحيازه بالكامل في خياره السياسي إلى المحور الإيراني، حمل الغرب على الابتعاد عنه، والسعودية ومعها دول الخليج، الرافعة المادية والاستثمارية له، على إدارة الظهر بما يشبه القطيعة معه.
أما عن موقع لبنان في هذه الصورة الدولية الجديدة، فسيكون تحت تفاهم وصاية غربية، أميركية تحديداً، وروسية مشتركة، على أن تتولى فرنسا التنفيذ على الأرض، من خلال توسيع رقعة نفوذها السياسي وربما العسكري، من خلال "اليونيفيل"، بالتوازي مع بدء التنقيب عن النفط والغاز عبر شركة "توتال"، ثمناً لهذا الدور. ذلك ان هناك تاريخاً "عاطفياً" في العلاقات اللبنانية- الفرنسية، من شأنه أن يساعد باريس في مهمتها في إعادة تصويب البوصلة اللبنانية الداخلية، من خلال الإصلاحات السياسية والإدارية، والمساعدة في إعادة تنظيم دور الدولة اللبنانية وهيكلتها، وانضواء الجميع بلا استثناء تحت قيادتها.
والاتصالات الخارجية الجارية راهناً، سواء من خلال التواصل الفرنسي الإيراني، والذي يرى فيه الرئيس ماكرون ايجابيات لمعركته الرئاسية المقبلة، ولقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيريه الايراني والسوريي، الهادف إلى إبلاغهما بالتوجهات الدولية الجديدة، وضرورة العمل بموجبها، إشارة واضحة إلى ان قطار التسوية الكبرى كما رسمت خطوطها واشنطن وموسكو منتصف حزيران الفائت انطلق، ومن يتخلّف عن ركوبه يبقى على الرصيف.
من هنا جاء تأليف الحكومة على هذا النحو، والواضح فيه ان "الثلث المعطل" ليس عملياً في يد أي فريق داخلي، لأن "الخربطة" من الداخل ممنوعة، وسيتبلّغ فريق الحكم ذلك قريباً، لأن الحسابات الداخلية لا مكان لها في التفاهمات الكبرى، ومسار الحكومة ومسيرتها يكشفان مدى استعداد المسؤولين في لبنان للتعامل مع هذه التفاهمات.