معركة نهر البارد... درس وعِبَر
كتب أديب ابي عقل
المركزية- طوى التاريخ أمس الاول صفحة السنة الرابعة عشرة على معركة نهر البارد، وهي المواجهة الثالثة التي خاضها الجيش اللبناني المحدود العدد والعتاد، ولكنه مفعم بروح وطنية ومحظوظ باحتضان لبناني شامل من أقصى الشمال الى آخر شبر على الحدود الجنوبية، وشرقاً وغرباً.
هي المعركة الثالثة لا بل الحرب، بعد معركة المالكية (1948)، ثم مواجهات العام ١٩٧٢ مع العدو الاسرائيلي، حيث خاض الجيش وبنوع خاص فوج المغاوير مواجهة شرسة مع المعتدين، حملت قائد تلك المجموعة المعتدية على القول: "لقد واجهتنا صنوف من أكلة لحوم البشر"، في اعتراف باستبسال ضباط الجيش اللبناني وعناصره في الدفاع عن تراب الوطن وأهله.
وتكمن أهمية معركة نهر البارد، التي بدأت بالغدر الذي نفذه إرهابيو "فتح الاسلام" في حق ضباط وعناصر من الجيش وهم نيام ليلاً، بغية إرهاب الجميع وخلق مناخ خوف ورعب، تمهيداً للتمدد وإعلان إمارتهم من الشمال، في أن قيادة الجيش في حينه، لم تخضع لمثل هذا التهديد والارهاب، وقررت معاقبة من قتلوا رفاق السلاح غدراً. والاهم من ذلك كان الرؤية البعيدة والقراءة المعمقة واستشراف الخطر المحدق في مسار ما حصل، لكشف المخطط الحقيقي لهذه المنظمة الإرهابية، وانعكاساته السلبية على اللبنانيين كشعب، وعلى الوطن كمقومات ومرتكزات.
والاهم من ذلك، كان رفض قائد الجيش آنذاك، العماد ميشال سليمان، الذي انتُخب لاحقاًرئيساً توافقياً للجمهورية، كل تحذيرات القادة السياسيين والزمنيين القلقة من النتائج، وكل الخطوط الحمر التي رسمها قادة آخرون لغايات سياسية، تبيّن مع تقادم الأيام انهم وقعوا فيها، وكانت قيادة الجيش على صواب، حيث طالبت هؤلاء في حينه بالعمل، ضغطاً أو تفاوضاً، على تسليم من قتل ضباطاً وجنوداً غدراً.
وأطلعتهم القيادة كذلك على خطورة ما تبيّته هذه المنظمة الإرهابية للشمال ولاحقاً للبنان. ولفتت الى الأهمية الوطنية لاجتثاث هذه المنظمة من المخيم واقتلاعها من أرض الوطن، لأن سقوط لبنان كان ليحوّله بالتأكيد ساحة فوضى وقتل واجرام، على غرار ما حصل لاحقاً في العراق وسوريا على يد " الدولة الاسلامية في العراق والشام"( داعش). ذلك أن وممارسات هذا التنظيم "الشقيق" لـ" القاعدة" وربيبها " فتح الاسلام" ماثلة للعيان، وهي في طريقها الى الانتعاش مجدداً في أفغانستان.
ولعل الوعي الهادىء والقرار الصارم الذي اتخذته قيادة الجيش آنذاك، مصحوباً بخطة عسكرية محكمة، تقوم على إجلاء المدنيين أولاً، وقضم المخيم خطوة خطوة لمحاصرة الإرهابيين واعتقالهم، ساهم بانجاح المعركة في خلال نصف المدة المقدرة لانهاء العملية وكذلك باقل من نصف العدد المقدر لسقوط شهداء للجيش، ومعظمهم سقط قنصاً وغدراً.
ومن المفيد للذاكرة الوطنية، الإشارة الى أن الجيش، منفرداً ووحيداً ومدعوماً من اللبنانيين، خاض هذه المواجهة، وسط اندهاش غربي قارب الذهول من أسلوبه وتخطيطه.
ولم تقبل القيادة الدخول في اي بازار ل"إجلاء" هؤلاء الإرهابيين، بل كانت مصممة على اعتقالهم وقد قبضت على عدد كبيرا منهم، واستطاع البعض منهم التنكر بالنقاب ليلوذ بالفرار في البساتين المحيطة، ذليلاً، لا يلوي على شيء.
ولم تكن القيادة في وارد بازار يقضي بالسماح بخروج آمن و"مرفّه" لمن قتل ضباطاً وجنوداً من الجيش، حرصاً على معنوياته أولاً، وعلى كرامة اللبنانيين ثانياً. فبعد القضاء على هذه الزمرة الإرهابية، عادت وحدات الجيش الى مقر القيادة متوجة بالنصر ومكللة بالغار، وخرج اللبنانيون الى الطرقات لاستقبالها بنثر الورود والزهور في لوحة وطنية رائعة لم تشهد البلاد مثيلاً لها.
لكن هذا المشهد لم يتكرر على النحو نفسه، بعد عملية " فجر الجرود" التي نفذها الجيش بكل بطولة واحترافية في البقعة التي تُركت له، ولكن البازار السياسي كان معداً سلفاً، وتمت سرقة الانتصار بإخراج الإرهابيين مبتسمين في باصات مكيفة، بدلا من ان يكونوا في قبضة العدالة لمحاكمتهم.
واهمية موقف الجيش في البارد، تكمن في رفضه عروضا دولية للمساعدة، كقصف المخيم جواً عن بعد، ووضع فريق مراقبين مع أجهزة متطورة جداً لمراقبة التحركات في داخل الخنادق اختبأ فيها الارهابيون، وتزويد الجيش بتفاصيلها. وذلك كي لا يسجل في تاريخه انه استعان بالخارج بشكل مباشر لضرب أرض لبنانية ومن عليها. فهو أصرّ على ان تكون العملية لبنانية مئة في المئة، خصوصا أنها كانت اول مواجهة مباشرة لدولة مع الاٍرهاب، وانه يمكن دحره والقضاء عليه، في وقت لم يكن الغرب برمته، وعلى رأسه الولايات المتحدة، يتجرّأ على مثل هذه المعركة وإنما ينفذ ضربات على القطعة.
والعبرة من تلك المعركة التي انقذت لبنان من براثن الاٍرهاب والإمارات التابعة له، هي وعي القيادة وابتعادها في استحقاقات من هذا النوع، عن الابتزاز السياسي، والتركيز على دورها الأساسي في حماية الوطن، وهو ما كان سمح لها بتأمين حرية التعبير والتظاهر على رغم الانقسام العمودي في البلاد "بلا ضربة كف"، وهو كان عاد الى الجنوب مرفوع الرأس عزيز الجانب وسط توق الأهالي الى حضوره كمصدر أمن واطمئنان، وما سمح له أيضاً بمواجهة العدو الاسرائيلي في العديسة في العام 2010 وحيداً ، ومن دون مساعدة طُرحت عليه من قوى الأمر الواقع جنوبا .
والعبرة كذلك، أنه عندما يقفل الجيش أبواب المؤسسة ونوافذها امام التدخلات والمصالح السياسية من أي نوع، يكون محصناً بقراره الذاتي ويجد في الشعب اللبناني كله البيئة الحاضنة التي ترى فيه الخلاص والنجاة من أي مطب أو منزلق خطر تتعرض له البلاد.